أخبارأخبار الرئيسيةإصدارات

قراءة في كتاب “قرن من الحراك الاجتماعي بالمغرب”

صدر كتاب “قرن من الحراك الاجتماعي بالمغرب” بالإسبانية ضمن سلسلة ألبوران (Alborán) التي دأبت دار نشر “بياطرا” على تخصيصها لإصدارات حول المغرب وتاريخ الحماية الإسبانية بالريف، ومواضيع تتعلق بأفريقيا والعالم الإسلامي بشكل عام. وقد نسق هذا الكتاب الجماعي ثلاثة أكاديميين من جامعة برشلونة المستقلة، هم لاورا فيليو، وجوسيب جويس ماطيو ذيستي، وفيران إثكييرذو بريكس. وشارك فيه مساهمون ينتمون إلى جامعات ومراكز بحث من المغرب وإسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا والبرتغال.

يتضمن الكتاب سلسلة من الدراسات التي ركزت كل واحدة منها على فصل من فصول الاحتجاج الاجتماعي والسياسي في المغرب في مدة تتجاوز القرن بقليل، وذلك ابتداء من سنة 1907 (سنة انتفاضة الشاوية) وصولا إلى الحركة الاحتجاجية ضد شركة “أمانديس” في طنجة سنة 2016. يضم الكتاب 25 فصلاً في المجموع. خصص المنسقون المقدمة والفصل الأول لعرض المنطلقات النظرية والتاريخية المؤطرة لفكرة تنسيق كتاب من هذا النوع، فيما ضمنوا الفصل الأخير بعض الخلاصات ومناحي جديدة للتساؤل والبحث. وإذا ما استثنينا فصلاً آخر خاصاً بإثنوغرافيا الصورة الفوتوغرافية وفضاءات الاحتجاج من إنجاز بلانكا كامبس فيبرير (Blanca Camps-Febrer) وناتاليا ريباس-ماتيوس (Natalia Ribas-Mateos)، فإن الجزء الأكبر من الكتاب هو عبارة عن 22 دراسة تتوزع بين فترات تاريخية مختلفة ومجالات جغرافية متعددة، بعض هذه المجالات يتكرر في أكثر من فصل، لكن في سياقات تاريخية مختلفة.

وإذا اعتمدنا تقسيم الفترة الاستعمارية، فسنجد بأن منطقتي الحماية الفرنسية والإسبانية (إذا أضفنا إلى هذه الأخيرة منطقة طنجة رغم وضعها المختلف أثناء الحماية) تتقاسمان الكتاب بشكل متساو تقريباً.

تبلورت فكرة تنسيق هذا الكتاب في سياق النقاشات الأكاديمية حول ما يسمى بـ”الربيع الديموقراطي”. ينطلق المنسقون من ضرورة إعادة وضع الاحتجاجات في سياق أوسع من أجل فهم أفضل، وذلك عبر إدماجها في أبعادها التاريخية لفهم الحاضر. ولذلك فإن الهدف هو مقاربة الحركات الاحتجاجية في المغرب طيلة قرن من الزمن كصيرورة واستمرارية وتراكم وقطائع أيضاً، وليس كسلسلة من اللحظات المجزَّءة والمنفصلة عن بعضها البعض. ويلاحظ المنسقون في هذا السياق بأن أغلب التحاليل السائدة حول الربيع العربي ركزت على ظروف الحركات الاحتجاجية وخصوصياتها، وتناولت الأحداث وكأنها جديدة تماماً ومنفصلة عن أية جذور تاريخية. كما أن إعادة وضع هذه الحركات في سياق تاريخي أشمل من شأنه أن يخلخل مسلماتنا وتنبؤاتنا حول مسار الأحداث. كما يشير المنسقون إلى أن مصدراً آخر قد شكل منطلقاً مفيداً لفكرة الكتاب هو مقال لجان فرانسوا كليمون (Jean-François Clément) نشر سنة 1992 تحت عنوان “الانتفاضات الحضرية” (Les révoltes urbaines). وهو مقال يحمل رغم قصره تساؤلات مهمة وفرضيات تستدعي الاختبار والتطوير في سياقات جديدة.

ونظراً لطبيعة الموضوع الذي يفرض مقاربات مختلفة، فإن هذا العمل يحتوي على دراسات من زوايا نظرية مختلفة في العلوم الإنسانية، والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، والتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وهو ما يجعل الكتاب، حسب المنسِّقين، متعدد المقاربات وليس متداخل المقاربات. يعكس الكتاب في تنوعه أيضاً الزوايا المختلفة في فهم التاريخ الاجتماعي خاصة بين من يركز على الحدث ومن يركز على البنيات، أي المنطق والعلاقات البنيوية التي يمكن أن تفسر الحدث. ولذلك فإن الكتاب يهدف من خلال عرض حالات قد تبدو منفصلة في الزمان والمكان إلى إرساء نوع من القراءة التي تربط بين هذه الفصول على اختلاف سياقاتها واختلاف جغرافياتها، بحيث يمكن أن نستشف منها مظاهر الاستمرارية والتحول.

تتفاوت على العموم درجة وطبيعة تفاعل فصول الكتاب مع الأطروحات والنقاشات النظرية، إذ تكاد تكون بعض الفصول أقرب إلى المونوغرافيا التاريخية، وهو ما لا يبخس من جدتها وغنى السياقات الاجتماعية والتاريخية التي تثيرها (يتعلق الأمر خاصة بالفصول التاريخية في الجزء الأول من الكتاب، مثل مقال سحر بزاز حول دعم الزاوية الكتانية بفاس للحركة الحفيظية سنة 1907). لكن هناك فصول أخرى تؤسس لحوار حقيقي بين المعطيات الميدانية والإثنوغرافية للحركة الاحتجاجية، وبين الإطارات والإسهامات النظرية في العلوم الإنسانية. يبرز في هذا السياق إطاران نظريان رئيسيان، وهما ما يسمى بسوسيولوجية السلطة، ثم السوسيولوجيا السياسية للحركات الاجتماعية. ومن خلال توظيف هذين الإطارين العامين، يحاول عدد من المساهمين فهم الدينامية الاحتجاجية من جهة، وطرق واستراتيجيات تعامل النخب في السلطة معها، ثم طُرق تفاعل الاثنين مع الحدث، بحيث يتأثران ويؤثران في بعضهما البعض.
يولي منسقو الكتاب في المقدمة وفي الفصل التمهيدي الأول أهمية خاصة لعرض مبادئ علم اجتماع السلطة كأداة لتحليل أي نظام سلطة. ويعتبر بالمناسبة أحد المنسقين وهو فيران إيثكييرذو بريكس من الأكاديميين المتخصصين في هذا الحقل. ينطلق علم اجتماع السلطة من الفكرة التي تعتبر أن التحولات البنيوية الكبرى التي أفضت إلى وجود الأنظمة الحالية ترتبط أساساً بظهور الرأسمال والدولة كموردين رئيسيين في عملية مراكمة السلطة، ولذلك فإن أي تحليل تاريخي يجب أن يأخذ هذه الديناميات بعين الاعتبار. وهو ما يعني أن القدرة على تحليل الحركات الاجتماعية في القرن العشرين رهين باستيعاب تطور هذه الديناميات ومراحل التنافس على الموارد. تفهم الموارد هنا بالمعنى الشامل، والذي يحيل على الموارد المادية واللامادية، أي المياه والأراضي والرأسمال، ثم الدين والمؤسسات والشعب الذي قد تصبح فئات منه في لحظات معيَّنة مورداً أساسياً لهذه النخبة أو تلك. وبمعنى آخر، فإن الموارد هي كل ما يستعان به من رأسمال في التنافس، وكذا كل ما يراد امتلاكه أو التحكم فيه.

وفي حالة المغرب بالتحديد، مر هذا التطور للدولة والرأسمال بخمس مراحل تاريخية يصنفها المنسقون على الشكل التالي: مغرب ما قبل الاستعمار، ومغرب الحماية، والمغرب الوطني، والمغرب الليبرالي، والمغرب النيوليبرالي. وقد صاحب هذا التطور الانتقال من نظام تتعدد فيه الموارد والنخب نحو نظام تتركز فيه السلطة. كما أنه في كل مرحلة من هذه المراحل، يترسخ ويتكرس ارتباط النخب المحلية بالرأسمال العالمي والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية. وتميز سوسيولوجية السلطة في تصنيفها للنخب بين النخب الرئيسية المراكمة للموارد والسلطة (élites primarias) والنخب الثانوية (élites secundarias) المرتبطة بالنخب الأولى، وتوجد هذه النخب الثانوية في علاقة تبعية للنخب الرئيسية أو منافسة أحياناً، وذلك حسب الظروف التاريخية والسياسية.

تحاول الفصول التاريخية في الجزء الأول من الكتاب رصد بعض ردود الفعل على تغلغل النخب الاستعمارية. نذكر هنا الفصل المتعلق بانتفاضة الشاوية سنة 1907 لجان فرانسوا كليمون، وفصلاً حول حركة الشريف محمد أمزيان في الريف الشرقي ضد تغلغل الشركات المنجمية المعدنية الإسبانية للباحث رشيد يشوتي. وفي فصل حول حركة الأمير عبد الملك بن محيي الدين الجزائري في منطقة تازة أثناء الحرب العالمية الأولى، تذهب أوديل مورو (Odile Moreau) إلى أن الدارسين ركزوا على التحالفات أو الولاءات الخارجية التي انخرط فيها عبد الملك (مع الألمان أو الأتراك)، ولم يأخذوا بعين الاعتبار العامل المحلي في حركته. وإن اعتبرت القراءات التاريخية هذه الحركة أداة وظفتها القوى الأوروبية في صراعاتها، فإن حركة عبد الملك لم تكن بهذه البساطة، بل كانت أكثر تعقيداً في دوافعها وردود أفعالها وطبيعة تحالفاتها مع القبائل في منطقة تازة والأطلس المتوسط والريف الجنوبي خاصة في فترة شهدت تعاظما للوجود الفرنسي (ص. 129). كانت حركة عبد الملك، حسب مورو، استجابة للرفض الواسع للوجود الفرنسي داخل تلك المناطق، فعملت على الاستفادة من تحالفات مع قوى خارجية أخرى مستغلة الصراعات المحتدمة زمن الحرب الأولى.

تخلص مورو إلى نقطة مهمة تتعلق بجدلية الإدماج والإقصاء لفصول معينة في بناء التاريخ الوطني، حيث تشير مثلاً إلى غياب عبد الملك من السرديات المؤسسة للوطن المغربي (ص. 139). وإذا كان أصله الجزائري يفسر هذا الإقصاء إلى حد ما، فإن الأمر في جميع الأحوال يطرح مسألة الغيرية في بناء سرديات التاريخ الوطني. وهي نقطة حاضرة أيضاً، ولو في سياقات مغايرة في مقال جان فرانسوا كليمون، حيث يشير إلى تحولات مفهوم العدو والآخر في انتفاضة الشاوية (الآخر الفرنسي، الآخر المديني، الآخر اليهودي).

يؤكد المنسقون على أن قراءة أكثر شمولية ومنهجية لتاريخ الاحتجاجات بالمغرب من شأنه أن يعيد النظر في طريقة قراءتنا للماضي من منطلق الحاضر، بحيث نميل إلى إسقاط مصالحنا ومخاوفنا في الحاضر على ماض هو ليس متماشياً بالضرورة مع السردية التي نحاول تكريسها. ويتجلى هذا مثلاً في مسلمات السردية الوطنية التي أعادت قراءة أحداث معينة لتتماشى مع مبادئ هذه السردية. تحضر هذه النقطة في مقال جوسيب جويس ماطيو دييستي حول احتجاجات اللطيف ضد ما يسمى بالظهير البربري سنة 1930. ويشير ماطيو ذييستي في معرض تحليله إلى أن النخب الوطنية قد وظفت هذا الحدث لتؤسس لسردية وطنية بدأت بتوظيف الوازع الديني لتصبح فيما بعد لحظة مؤسسة للوطنية المغربية، وهي عملية صاحبتها تعبئة مهمة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، شارك فيها وطنيون عرب في عواصم المشرق وأوربا على رأسهم شكيب أرسلان. كما صاحبها أيضاً تأويل معين لنص الظهير عمل على التخويف من المخاطر المحدقة بالهوية العربية الإسلامية للمغرب كما تصورتها النخبة الوطنية. ولعل ما يثير الانتباه في احتجاجات اللطيف، حسب ذييستي، هو أنها حركة حضرية نشأت لمواجهة مشكل قروي، بل إن المناطق الأمازيغية المعنية بالظهير كانت خارج أي نقاش. يردد ذييستي هنا ما ذهب إليه جيل لافويتي (Gilles Lafuente) في كتابه (La politique berbère de la France et le nationalisme marocain) من أن الرواية التي كرستها الحركة الوطنية المغربية حول الظهير واحتجاجات اللطيف هي رواية موجهة لخدمة مشروعهم السياسي ولا علاقة لها بالأمازيع أو بقضاياهم. كانت احتجاجات اللطيف إذن لحظة مؤسِّسة في المغرب لما يسميه بينيديكت أندرسن (Benedict Anderson) بالجماعة المتخيَّلة (imagined community)، ومنها انبثقت الوحدوية الوطنية التي ألغت كل اختلاف وأدمجته ضمن الهوية العربية والإسلامية للمغرب.

ونجد نفس القراءة البعدية التي توظف حدثاً ماضياً في السردية الوطنية عند أدم كيرين (Adam Guerin) في دراسته لانتفاضة ماء بوفكران بمكناس سنة 1937، وتوظيفها في بناء سردية الحركة الوطنية. وهي رواية تحجب عنا فهم دوافع الحركة الاحتجاجية وأهدافها، والتي انطلقت في الغالب من فئات قروية انتفضت ضد تحويل الموارد المائية لفائدة المعمرين الفرنسيين، ولم تربطها أية علاقة بالنخب الوطنية. كانت انتفاضة ماء بوفكران موجهة ضد البرامج الاستعمارية التي قوَّضت التوازن الاقتصادي والديموغرافي والبيئي في المنطقة (ص. 199)، لكنها أصبحت لحظة مهمة في مسلسل بناء عناصر السردية الوطنية خلال عقد الثلاثينيات، والتي ستصبح محورية في تحول الخطاب الوطني من المطالبة بإصلاحات في الإدارة الاستعمارية إلى المطالبة بالاستقلال. يتجلى هذا التحول بوضوح في الفصلين اللاحقين اللذين يؤرخان للحظتين تاريخيتين لاحتدام المواجهة بين النخب الوطنية في الشمال والسلطات الإسبانية من خلال مقال حول أحداث تطوان سنة 1948 للباحثة روثيو فيلاسكو ذي كاسترو (Rocio Velasco de Castro)، ومقال حول أحداث طنجة في 30 مارس 1952 لبيرنابي لوبيث غارثيا (Bernabé López García).

ومن القضايا الجوهرية التي شغلت المنسقين وعدداً من المساهمين، قضية تسمية هذه الاحتجاجات والحركات الاجتماعية أو تصنيفها. وفي الدراسات التي تتناول الحركات الاحتجاجية، غالباً ما تتراوح هذه التصنيفات بين الانتفاضة والأحداث والحركة والثورة وأعمال العنف والتمرد. وقد اكتست هذه الاختيارات المعجمية أهمية ليس فقط خلال المرحلة الاستعمارية، حيث كان الهدف نزع الشرعية عن حركات المقاومة وتقديمها على أنها حركات بدائية ومتخلفة ومتعصبة وهمجية، بل أيضاً في مرحلة بناء الدولة الوطنية وما بعدها. ولذلك يؤكد المنسقون وعدد من المساهمين بأن اختيار مصطلح معين لوصف حركة احتجاجية معينة هو في العمق اختيار سياسي وإيديولوجي. ومن المثير للانتباه مثلاً ما يشير إليه ميمون أزيزا في مقاله عن أحداث الريف في نهاية 1958 ومطلع 1959، والذي اعتمد فيه على الأرشيف الفرنسي والإسباني، حيث تثبت الوثائق بأن المسؤوليين القنصليين الإسبان قد استعملوا مصطلح الانفصال أو الحركة الانفصالية لوصف دوافع الاحتجاج (ص. 257). ولا يخفى أن هذا هو نفس التوصيف الذي كان يتردد في الخطاب السياسي الوطني. وتجدر الإشارة في هذا السياق مثلاً إلى أن مفردة الانفصال هي من الكلمات الأكثر تردداً على صفحات جريدة العلم خلال الفترة الممتدة بين نوفمبر 1958 وفبراير 1959، ليس فقط لوصف أحداث الريف، بل في توظيف نفس المصطلح كذلك لوصف حدث آخر وفئة سياسية واجتماعية أخرى، أي الجناح اليساري داخل حزب الاستقلال أثناء الأزمة التي عصفت بالحزب في مطلع سنة 1959.

ويلاحظ، في سياق متصل، أن بعض التصنيفات والمسلمات النظرية لم تتزحزح بالرغم من كل التراكم الذي حصل على مستوى الدراسات المتعلقة بالمغرب، وهي تصنيفات ومسلمات يأخذ بها الباحث الأجنبي كما المغربي. فمثلاً، تستهل ماريا روسا ذي ماذارياغا (Maria Rosa de Madariaga) مقالها عن حركة بن عبد الكريم الخطابي، باعتماد قراءة انقسامية للمجتمع الريفي مستمدة من أعمال ديفيد هارت (David M. Hart) والمراقب العسكري الإسباني إيميليو بلانكو إيثاغا (Emilio Blanco Izaga). ولا يخفى أن التبعات النظرية والتحليلية للانقسامية مثل مفهوم القبيلة والدم هي تصنيفات ما تزال ذات وقع وحضور اليوم في الخطاب السوسيولوجي حول المغرب، رغم أن مدى صلاحية إسقاطها على موضوع البحث، وهو الريف في هذه الحالة، تبقى إشكالية(1).

ومن بين الأسئلة التي تشغل اهتمام الباحثين حول المغرب والتي تردد صداها في بعض المساهمات، وخاصة في مقالي المنسقين هو: كيف يمكن تفسير القدرة الهائلة للنخب الحاكمة على تجاوز لحظات الأزمة بدرجة عالية من النجاح في إضعاف مختلف الحركات الاحتجاجية والمعارضة طيلة عقود من الزمن. تتطلب أية محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة إعمال مقاربات نظرية مختلفة. وفي هذا السياق، حاولت دراسة ماريا أنغوستياس باريخو فيرنانديث (María Angustias Parejo Fernández) حول انتفاضة مارس 1965 في الدار البيضاء تتبع مراحل الاحتجاجات والتعبئة وردود فعل النخب إزاء الانتفاضة وتأثير الانتفاضة على التحالفات النخبوية في فترة بناء الدولة الوطنية، مستعينة بنظريات تشارلز تيلي (Charles Tilly) وسيدني طاروو (Sidney Tarrow) في السوسيولوجيا السياسية للحركات الاجتماعية، وكذلك بنظريات علم اجتماع السلطة. تلاحظ الباحثة أولاً قلة الدراسات التي اهتمت بانتفاضة الدار البيضاء، وثانياً، ميل أغلبية الدارسين لتوظيف مصطلح “أعمال شغب” (émeutes) لتوصيف الاحتجاجات. وتتبنى باريخو فيرنانديث في هذا السياق مقاربة طاروو وتيلي في ضرورة توسيع مفهوم الحركة الاجتماعية ليشمل ما يصطلح عليه بأعمال الشغب، لأن هذه الأخيرة هي في نهاية المطاف ناتجة عن حركة اجتماعية منشؤها عدم الرضا عن السياسات العمومية، وتعبر عن نفسها من خلال أشكال مخالفة للنظام العام. لا يخفى أن توظيف عبارة “أعمال شغب” توحي دائماً بجماعات عنيفة ولاعقلانية يكون محركها ليس فقط العاطفة، بل الإجرام. كانت احتجاجات الدار البيضاء حركة بدأت مع تلاميذ المدارس والثانويات، لكنها جذبت أيضاً شرائح اجتماعية واسعة بما فيها الفئات الشعبية والطبقات الوسطى لتتحول إلى حركة جماهيرية (ص. 283-284). وقد اختلطت في هذه الحركة نماذج وأشكال احتجاجية (répertoires) تقليدية وسلمية مثل الإضراب والمظاهرات والتجمعات مع أشكال من الاحتجاجات العنيفة. شكلت هذه الاحتجاجات تحدياً ليس فقط للنخب الرئيسية، بل أيضاً للنخب الثانوية. إذ إنها فاجأت الأحزاب والقيادات السياسية وإلى حد كبير القيادات النقابية أيضاً. وقد استعمل النظام السياسي طرقاً مختلفة للتعامل مع الاحتجاجات، منها القمع ثم المناورة السياسية للتفاوض مع الأحزاب، وهو ما أدى إلى انشقاقات داخلها. وتخلص الباحثة إلى أن الحالة المغربية وتجارب التعبئة والاحتجاج في فترة بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال تكشف عدم ملاءمة بعض التصنيفات النظرية، وكذا خطأ بعض الأحكام السائدة حول الديناميات الاحتجاجية في المنطقة المغاربية، من بينها القول بوجود فراغ في الفعل الاجتماعي داخل المجتمعات التي تعيش في ظل أنظمة مستبدة، والقول بأنه لا توجد بدائل في هذه المجتمعات بين الخضوع وأعمال الشغب (ص. 278). كما تظهر دراسة انتفاضة الدار البيضاء وما بعدها خطأ الاعتقاد بأن إضعاف الحركة الاجتماعية وقمعها يؤدي بالضرورة إلى انتشار السلبية واللامبالاة والنفور من السياسة، كما نظر لذلك عالم الاجتماع خوان لينث (Juan Linz). يجب فهم انتفاضة الدار البيضاء ليس كحدث منعزل، بل فهمها في بعدها التراكمي كاستمرارية لانتفاضات وحركات شهدتها المدينة في المراحل الاستعمارية وما بعد الاستقلال. ورغم القمع والاحتواء اللذين جوبهت بهما الانتفاضة، فإن أشكال التعبير الجماعي سواء منها التقليدية أو غير التقليدية للحركة قد استمرت بعد ربيع 1965، وتطورت مع مرور الزمن، وتحولت إلى منظمات سياسية مستقلة عن الأحزاب (ص. 293).

وإلى جانب هذا الفصل حول انتفاضة الدار البيضاء سنة 1965، نجد فصولاً أخرى تميزت في محاولتها القيام بالرصد الإثنوغرافي للحركة الاحتجاجية في هذه المكان أو ذاك، من خلال تحليل السياقات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، ثم تتبع الفاعلين وانتماءاتهم ودوافعهم، وطبيعة تفاعل النخب، ورصد أشكال الاحتجاجات وأنماطها، والفضاءات الاحتجاجية، ثم طرق تعامل النظام، ثم مصير الحركات ومآلاتها. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى دراستين تضمنهما الكتاب، الدراسة الأولى لأنخيلا سواريث كوياذو (Ángela Suárez Collado) حول انتفاضة 1984 في مدينة الناظور، أما الدراسة الثانية فقد خصصتها بلانكا كامبس فيبرير لإضراب فاس سنة 1990. ترى كامبس فيبرير بأن أحداث فاس كانت بمثابة مفترق طرق في صيرورة الفعل الاحتجاجي بالمغرب، إذ شكلت الأحداث نهاية مرحلة من الاحتجاج السياسي وبداية مرحلة جديدة غير مرتبطة بالأحزاب أو حتى بالنقابات أو بشكل من أشكال التأطير الإيديولوجي (ص. 321). كانت احتجاجات مدينة فاس إيذاناً ببداية نموذج للاحتجاج سيتبلور لاحقاً مع بروز المجتمع المدني في عقد التسعينيات خاصة مع العجز التعبوي والتأطيري لليسار التقليدي والمنظمات النقابية (ص. 334). لا شك أن الاحتجاجات قد منحت الأحزاب والنقابات المعارضة هامشاً تفاوضياً مع النخب الحاكمة في أعقاب أحداث فاس، لكنها شكلت من جانب آخر الإعلان النهائي لفقدانها القدرة على التعبئة الجماهيرية منذ تلك الفترة.

من بين الأسئلة الملحة التي تطرح ضمن الرؤية الشاملة لهذه الديناميات الاحتجاجية المختلفة والمتفاوتة جغرافيا تلك المتعلقة بجدلية المحلي والوطني، أو القروي والحضري، أو المركز والهامش. صحيح أن بعض هذه الثنائيات قد تصبح إشكالية اليوم كما يشير إلى ذلك المنسقون في الفصل الأخير؛ فثنائية الحضري والقروي مثلاً تبقى إشكالية مع نهاية القرن العشرين، خاصة بعد ما يمكن تسميته بالترييف المتزايد للمدينة وتمدين القرية. كما أن الفصول المتعلقة بحركة 20 فبراير في الجزء الأخير من الكتاب تجمع على التأكيد على الخصوصية المحلية لهذه الحركة الوطنية، سواء فيما يتعلق بأشكال التعبئة أو فضاءات الاحتجاج أو طرق تعامل السلطات. يتضح ذلك مثلا من خلال مقال خالد مونا حول حركة 20 فبراير في مكناس، والذي يلاحظ فيه اختلاف تعامل السلطات مع المسيرات مقارنة بمدن أخرى مثل طنجة، ومقال ميرثيذيس خيمينيث ألباريث (Mercedes G. Jiménez Álvarez) حول حركة 20 فبراير في طنجة، والتي تلاحظ فيه عدم انخراط النسيج الجمعوي بالمدينة، ثم مقال لاورا فيليو عن ديناميات حركة 20 فبراير في تطوان.

من الفصول المميزة التي تناولت بشكل مباشر جدلية المحلي والوطني دراسة كونراد بوخارت (Koenraad Bogaert) لاحتجاجات إميضر والتي شهدت أطول اعتصام في تاريخ المغرب. يتساءل بوخارت: أليس من التبسيط اعتبار أن حركة إميضر واعتصام السكان بجبل ألبان كانت نتيجة مباشرة لموجة الربيع العربي إقليمياً وحركة 20 فبراير وطنياً؟ ألا يمكن أن يكون الأمر مقلوباً؟ يرى بوخارت بأن حركة 20 فبراير كانت نتاجاً لصيرورة تاريخية اجتماعية من الاحتجاج في المغرب تبلورت في السنوات والعقود الأخيرة. ويلاحظ بأن احتجاجات مثل تلك التي شهدتها إميضر لا تحظى عادة باهتمام المحللين والدارسين، إذ تصنف كحركات ذات سمات خاصة أو استثنائية وترتبط بالهامش، وكأن مثل هذه الاحتجاجات ثانوية مقارنة مع النضال المدني والديموقراطي لحركة 20 فبراير الوطنية. المغالطتان اللتان ينطوي عليهما هذا التبسيط، حسب بوخارت، هو أن احتجاجات إميضر، كما هو معروف، لم تبدأ مع 20 فبراير، كما أن حركات أخرى من هذا النوع، أي تلك الآتية من الهامش، قد تكاثرت في السنوات الأخيرة في مختلف ربوع المملكة (سيدي إفني وبوعرفة وتماسينت وخريبكة وجرادة وزاكورة والحسيمة). لذلك يمكن اعتبار حركة إميضر رمزاً لتحول جوهري في العقود الأخيرة اشتدت فيها انتفاضات البلدات الصغيرة خلافاً لعقد الثمانينيات الذي تميز بفورات حضرية (ص. 410).

يرى بوخارت من خلال استحضار أفكار روزا لوكسمبرغ حول دور بؤر النضال الاقتصادي الصغيرة في النضال الديموقراطي الأشمل بأن تحليل حركات احتجاجية، مثل احتجاجات إميضر ستسعف الدارس كنقطة انطلاقة في محاولة فهم حركة 20 فبراير، بل فهم حركة الربيع الإقليمي نفسه. وبدل الانطلاق من الإقليمي أو الوطني لفهم المحلي، يرى بأنه من الضروري البدء بدراسة الحالات المحلية الخاصة والتي قد تبدو غير مهمة لأول وهلة، ثم محاولة تتبعها طيلة السنوات التي تقود إلى الحركة الأشمل. إن حركة شاملة سواء كانت وطنياً أو إقليميا هي نتاج حركات مقاومة محلية وصغيرة متعددة تجتمع في لحظة تاريخية معينة. لذلك فإن قراءة جزئية ولاتاريخية وحصرية لحركة 20 فبراير كنسخة مغربية للربيع العربي تخفي ديناميات أكثر عمقاً وأكثر تنوعاً للحقل الاحتجاجي المعاصر.

أكثر من ذلك، يرى بوخارت بأن دراسة الاحتجاجات المحلية تكشف أيضاً مدى تأثير السياسات النيوليبرالية التي ترتبط فيها النخب الوطنية بالاقتصاد العالمي على جيوب كانت خارج هذا التأثير إلى أمد قريب. فإلى حدود سنة 2000، لم تحدث انتفاضة هامشية أو قروية كبرى منذ انتفاضة الريف سنة 58-59. حيث إنه خلال عقدي السبعينيات والثمانينات، أدت خطط التقشف وبرامج التقويم الهيكلي إلى انتفاضات حضرية هنا وهناك، لكن تأثير هذه الخطط لم يمتد نحو القرى والبلدات الصغيرة، لأن هذه الأخيرة لم تكن ترتبط بنفس الحدة بتدخل الدولة وبرامجها الاقتصادية (ص. 412). وما تبرزه الحركات الهامشية الجديدة هو أزمة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وتغلغل الرأسمال المحلي المرتبط بالرأسمال العالمي، والذي أصبح تأثيره يطال البلدات والقرى بشكل لم يسبق أن حدث قبل ذلك. وهو ما يعني أن قراءة الحركات الهامشية تسلط الضوء على تطور ديناميات اقتصادية إقليمية وعالمية كبرى. يتجلى هذا التأثير النيوليبرالي على الهوامش القروية أيضاً من خلال حركات أخرى، مثلما توضح أنخليس راميريث (Angeles Ramirez) في دراستها المقارنة لحركتين لنساء الأراضي السلالية في كل من جماعة الحدادة بإقليم القنيطرة ودوار أولاد اسبيطة بجماعة بوقنادل بإقليم سلا.

تنتهي فصول الكتاب زمنياً عند احتجاجات طنجة ضد شركة التدبير المفوض “أمانديس” سنة 2016، وهكذا تغيب حركات احتجاجية حدثت بعد هذا التاريخ، مثل حراك جرادة وحراك الريف، رغم أن هذا الأخير حاضر في خلاصات المنسقين في الفصل الأخير من الكتاب. كما تغيب حركات هامة قبل هذا التاريخ مثل حراك سيدي إفني سنة 2008. لكن رغم ذلك، يمكن اعتبار الكتاب، سواء بالنسبة للباحث أو القارئ غير المتخصص، بمثابة دليل في تاريخ الحركات الاحتجاجية في المغرب في القرن العشرين وبداية القرن الواحد العشرين. ويشكل الفصل الأخير للمنسقين مادة غنية ليس فقط بالخلاصات التي يمكن استنتاجها من هذه الصيرورة الاحتجاجية المتنوعة، بل هي أيضا غنية بأسئلة وإشكاليات جوهرية تفتح آفاقاً مهمة للبحث في تاريخ الاحتجاج بالمغرب. ومن بين هذه القضايا المطروحة مثلاً دور فترة الحماية والتقسيمات المرتبطة بها وحضورها في التمثلات السياسية والاجتماعية والإيديولوجية عند الفاعلين والنخب، واستمرار تأثير هذه التصنيفات على تصورات اليوم، ثم تحولات الفضاء الاحتجاجي بفعل تأثير الوسائل الحديثة للاتصال، ومدى راهنية أو صلاحية بعض الإطارات والأحكام النظرية التي اعتاد الدراسون على توظيفها في تحليلهم للمجتمع المغربي، ثم الحاجة إلى استكشاف إمكانيات تحليلية ونظرية جديدة يميل الباحثون في علم الاجتماع والسياسة إلى الممانعة في التعامل معها، مثل دراسة المشاعر الجماعية. ثمة حاجة حسب المنسقين إلى دراسة المشاعر الاحتجاجية بدل التصنيفات الثنائية التي تغلب على بعض الدراسات من قبيل العقلانية واللاعقلانية في الفعل الاحتجاجي(2).

الهوامش:
(1) انظر مثلاً الانتقادات الوجيهة التي خص بها هنري مونسن النظرية الانقسامية وخاصة عند دافيد هارت في دراسته للريف، حيث يوضح مونسن، موظفاً نفس المعطيات الإثنوغرافية التي جمعها هارت، كيف أن مصطلح القبيلة كما هو متعارف عليه غير صالح لتحليل القبيلة في الريف أو في الجبالة، فالقبيلة في هاتين الحالتين تحيل على تقسيم جغرافي للأرض والمجال أكثر مما هو تقسيم مبني على قرابة الدم والسلالة. حسب مونسن، يميل الإثنوغرافيون والأنثروبولوجيون الذين درسوا شمال المغرب إلى إسقاط نموذج القبيلة كما هو حاضر في مجتمعات شبه الجزيرة العربية على شمال المغرب، وهو إسقاط لا يعكس طبيعة القبيلة الجبلية أو الريفية. انظر:
Henry Munson Jr. (1989). “On the Irrelevance of the Segmentary Lineage Model in the Moroccan Rif”. American Anthropologist, 91(2), pp.386-400.
(2) انظر مثلاً الحوار المهم الذي أجراه عبد الحي مودن مع جيمس جاسبر أحد رواد سوسيولوجيا المشاعر الاحتجاجية، المنشور على موقع مجلة “رباط الكتب”: http://ribatalkoutoub.com/?p=3121

محمد الداودي

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: