أخبار الرئيسيةتاريخثقافة وفنون

ماذا تعرف عن المفاوضات الأخيرة لحكومة الجمهورية الريفية من أجل الاستقلال ؟ الجزء الأول

القجيري محمد

حيثيات مفاوضات وجدة التي جمعت في آن واحد وفد الاستعمار الفرنسي بوفد الاستعمار الاسباني في مواجهة الوفد الوطني الريفي جاءت بعد التحركات المكثفة للدبلوماسية الوطنية الريفية على مستوى المنتظم الدولي بما كان التأييد السياسي العالمي قائما لحكومة الريف؛ كحكومة شرعية وحيدة ممثلة عن الشعب الريفي. وفي الوقت بالذات الذي كان فيه أصدقاء الريف يقومون بتنظيم دعاية كبرى في عدد من البلدان الأوربية تدعو لاستقلال الريف والاعتراف العالمي بالسلطة الريفية القائمة بما سعوا كذلك من داخل عصبة الأمم لمحاولة الحصول على اعتراف المنتظم الدولي بالحكومة الريفية وانتزاع هذا الاعتراف الدولي بدولة الجمهورية الريفية كدولة قائمة بذاتها كما تثبتها عشرات المراسلات التي بعثت من طرف عدة أطراف داعمة لقضية استقلال الريف إلى عصبة الأمم.

والحال كذلك مع الدعاية التي كانت تقوم بها “لجنة الريف” الأوربية التي كان لها مقر بلندن لصالح القضية الريفية، هذا دون أن ننسى كذلك دور الهيئات والتنظيمات الشيوعية التي نظمت عدة مهرجانات تضامنية من أجل نيل الريف حريته واستقلاله المهضوم كما قامت بالدعاية لصالح حركة المقاومة الريفية المسلحة التي تطالب بحريتها واستقلالها بمختلف بلدان العالم بل وطالبت بمعية مجموع من الجماعات والإطارات السياسية والشبيبية اليسارية التقدمية والنسائية الكفاحية والقوى العمالية المناضلة بالاعتراف بالدولة الريفية، وكانت شعارات من قبيل “لتحيا الجمهورية الريفية” مدوية في عدد من المهرجانات الخطابية والتجمعات الجماهيرية، حيث وصل هذا التضامن الدولي إلى غاية الهند وأمريكا اللاتينية مرورا بعدد من البلدان.

والحال أيضا مع حركات التحرر العالمي بمختلف القارات التي نظمت حملات دولية حاشدة من أجل الاستقلال الوطني للريف وإثارة القضية الوطنية الريفية أمام الرأي العام العالمي كما فضح جرائم الامبريالية الأوروبية التي كانت تباشر بارتكابها وبدم بارد داخل بلاد الريف عبر الصحف الدولية والبيانات الصادرة آنذاك وهو ما جعل كثير من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء ومختلف البعثات الإعلامية يقومون بزيارة بلاد الريف لمعاينة الوضع عن قرب وعلى أرض الواقع والتحقق بما كان يدور آنذاك من المعارك الشرسة بين المقاومة الريفية وجيوش الاحتلال كما تفنيد الدعايات والأكاذيب التي كانت تنشرها صحف الاستعمار والمنابر الاعلامية المنضوية تحتها.

كما شهد كذلك السياق الدولي الذي جاءت به مفاوضات وجدة اتصالات واسعة النطاق قامت بها البعثات الريفية لإثارة قضية الاستقلال الوطني للريف أمام العالم المتحضر والمتمدن. والحال كذلك، مع الاستقبالات الرسمية للوفود الأجنبية التي كانت تتوافد، بين حين وحين، إلى العاصمة الريفية أجدير وإلى مختلف مراكز الحكومة الريفية للتباحث حول القضية الريفية كما هو الحال عندما زار القنصلين الأمريكي والإيطالي رئيس الدولة الريفية، ولقد علمت بعض القصاصات وقتذاك “أن حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا أخبرت الحكومة الريفية أنها مستعدة للاعتراف باستقلال الريف إذا كانت فرنسا لا تعارض ذلك” (أنظر محمد العلمي، زعيم الريف: محمد عبد الكريم الخطابي، ص: 44).


وفي الوقت بالذات، كان فيه الجيش الوطني الجمهوري الريفي أكثر تنظيما وانضباطا وقوة وانتشارا على مستوى الأرض وبالأخص لما استطاع أن يطرد قوات الجيوش الاسبانية المدعومة بالقوات السلطانية والخليفية المغربية عن معظم الأراضي الريفية. ولم يكن لوجود الاحتلال الاسباني العسكري إذاك إلا في بعض المناطق الساحلية للريف بكل من مريتش وسبتا وبعض المواقع العسكرية الأخرى الهامشية التي أصبحت بدورها مهددة بانسحاب القوات الاسبانية منها أمام الضربات العسكرية المتتالية التي كانت تتلقها على يد المقاومة الريفية المسلحة علاوة على الحصار العسكري المضروب وبقوة على تلك المناطق الريفية المحتلة وخاصة جهة الريف الغربي، وهو الشيء الذي أدى بالقوات الاسبانية إلى إخلاء “أكثر من مائة وثمانين مركزا بجبالة وغمارة، وخاصة مدينة أشاون في شهر دجنبر من سنة 1924، أصبح شريط عريض من الأراضي شمال ورغة بدون أي حماية، ولم تتأخر المنطقة في تسجيل أحداث متسارعة، فبتاريخ 12 أبريل 1925 شرع عبد الكريم في اكتساح أراضي بني زروال” (ماريا روسا ذي مادارياغا، محمد بن عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال، ص 283).

وبطبيعة الحال، فإن دخول القوات الريفية لتحرير منطقة بني زروال المحاذية لمنطقة الاقامة العامة الفرنسية بالمغرب وغير الخاضعة لسيطرتها العسكرية كانت السبب الرئيسي والمباشر لاندلاع المواجهة الريفية الفرنسية في أبريل 1925 والمولدة لتشكل التحالف الفرنسي الاسباني بما كانت تشكله تلك القبيلة من منطقة استراتيجية لفرنسا الاستعمارية وخصوصا وأن الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب كانت تتوفر في القبيلة المذكورة على حليف هام تمثل في شخص المدعو الشريف عبد الرحمان الدرقاوي، الموالي للسلطة العلوية.


وكانت الحكومة الريفية المقاومة وقبل اندلاع المشكل الحدودي بين منطقة النفوذ الفرنسية والاسبانية في إشارة إلى ما يسمى في الأدبيات الكولونيالية بـ “مشكلة بني زروال” قد اقترحت على الحكومة الاسبانية الاستعمارية مخابرات في شأن الصلح ووقف القتال شرط الاعتراف بالدولة الريفية مقابل امتيازات اقتصادية وسياسية ستستفيد منها الحكومة الاسبانية، وهي تلك المخابرة التي سبقت مفاوضات وجدة، وأهم نقاطها كانت على الشكل التالي:

  • الانسحاب من تطاوين ومن جميع المناطق التي تحتلها الجيوش الاسبانية
  • الاستقلال التام والمطلق للريف والاعتراف باستقلاله من طرف اسبانيا


وفعلا لبت الحكومة الاسبانية بعض هذه النقاط وانسحبت الجيوش الاسبانية من بعض المواقع التي كانت تحتلها غير أن النقطة المتعلقة بالاستقلال التام للدولة الريفية قوبلت بالرفض من داخل الحزب الاستعماري الاسباني. وطبعا، فإن قضية الاستقلال السياسي الكامل للريف كشرط مسبق قبل أي مفاوضة هي قضية مصيرية لا يمكن التنازل عنها بأي شكل من الأشكال. يلخص محمد أزرقان، وزير الخارجية للجمهورية الريفية موقف وخطة الحكومة الريفية في أي مفاوضة مفاوضة وأي مخابرة مخابرة، بالقول: “لا يسعني إلا أن أصرح لكم تصريحاً نهائياً أن الريف لا يبدل ولا يغير خطته التي صار عليها الوفد، وهو أنه لا يفتح أي مخابرة في شأن الصلح إلا على أساس اعتراف اسبانيا باستقلال الريف” (أنظر محمد محمد عمر القاضي، أسد الريف: محمد عبد الكريم الخطابي، ص. 150).


وعلى خط التماس الفرنسي – الريفي وفي سياق النزاع الحدودي المولد للحرب الريفية – الفرنسية، وقبل أن يتشكل عنه هذا التحالف الدولي بين اسبانيا وفرنسا وتطوراته اللاحقة بالإعلان عن مفاوضات وجدة الأخيرة للدولة الريفية، تعمدت القوات الفرنسية الاستعمارية المختلطة بالقوات المغربية بالتوغل المشبوه وعلى حين غرة داخل الأراضي الريفية وغير المرحب به حتى من داخل بلدان أوروبية حليفة لها، واحتلت بعض الأجزاء الترابية من الأراضي الجنوبية للجمهورية الريفية؛ وهي تلك الأراضي المتنازع عليها في الجنوب على الحدود مع منطقة الحماية الفرنسية للسلطنة العلوية، حيث كانت هذه القوات الاستعمارية الفرنسية-المغربية مهددة بدورها بالزوال والانسحاب القسري من الأراضي الجنوبية للجمهورية الريفية إبان المعارك الطاحنة التي اندلعت على إثر هذا النزاع المفتعل من قبل الفرنسيين والذي أخذ صبغة دولية (اسبانيا، فرنسا، المغرب، الريف والمنظم الدولي) عندما أثيرت نقاشات حادة على المستوى الدولي ومن داخل أروقة عصبة الأمم (الأمم المتحدة حاليا) بسبب تطورات نزاع الحدود بين الجمهورية الريفية المنتصرة في حربها على الاحتلال الاسباني ومنطقة الحماية الفرنسية. وهي تلك الحرب التي خاضتها قوات الجمهورية الريفية ضد القوات الاستعمارية الفرنسية والمغربية على الأراضي الجنوبية للريف والمشهورة بحرب الأشهر الثلاثة التي اندلعت في غضون الأسبوع الثاني من شهر أبريل سنة 1925.

وكانت الجيوش الاستعمارية الفرنسية على وشك الانسحاب والخروج الاضطراري من بعض المواقع التي احتلتها في جنوب الجمهورية أمام الزحف الريفي القوي والإنزال العسكري الضخم على مشارف تازة. ولقد خسر الفرنسيون على إثر الهجوم الذي قاده الريفيون من أبريل إلى غاية يوليوز 1925 “أربعين مركزا من أصل أكثر من ستين، وقد تم الاستلاء على بعضها عَنوةً، في حين تم تسليم أو إخلاء مراكز أخرى من طرف الفرنسيين. بل ومنها من تعرضت حتى للنسف. وكانت الخسائر مرتفعة جداً سواء في صفوف القوات الفرنسية أو المحاربين الريفيين، وحتى بين السكان المحليين، علما بأن خسائر الجانب الأول، أي القوات الفرنسية، شملت وحدات اللفيف الأجنبي، والرماة المنتمين إلى شمال إفريقيا أو السينغال، بالإضافة إلى الإسباهية الجزائريين” (ماريا روسا ذي مادارياكا، نفس المصدر السابق، ص 300).

وبطبيعة الحال، فإن كل هذه التطورات المتسارعة والحاسمة جعلت الإقامة الفرنسية بالمغرب الموشكة على الانهزام، وفي اللحظات الأخيرة إلى إبرام اتفاق تحالفي امبريالي وقذر مع الحكومة الاسبانية بعدما تم طرد معظم قواتها عن المواقع التي كانت تحتلها من داخل الأراضي الجنوبية للجمهورية الريفية بفضل ذخيرة المدافع الريفية القوية بما كانت تتساقط على معسكراتها مثلما كانت القوات الاسبانية بدورها على وشك السقوط التام عن أجزاء المنطقة الريفية بالشمال الغربي والمسماة في الأدبيات الاستعمارية بـ “المنطقة الخليفية” أمام الهجمات المتتالية لوحدات الجيش الوطني الريفي الجمهوري، لتدخل بعدئذ الحكومة الفرنسية في مفاوضات دبلوماسية مع الحكومة الاسبانية بعدما باتتا الحكومتين الاستعماريتين على وشك السقوط التام والانسحاب الكامل عن الأراضي الريفية أمام دوي المدافع الريفية والطلقات النارية الكثيفة لمقاتلي الجيش الوطني الجمهوري وفدائيي المقاومة الشعبية.

وكانت القيادة الوطنية الريفية قد سبقت أن اقترحت خلال أوائل العام 1924 لأجل تجنب حرب الحدود على الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب عبر مبعوث الحكومة الريفية السيد علي بن حدو بن علي الملقب بـ علوش، عم رقايذ حدو بن حمو، تأسيس لجنة مشتركة فرنسية ريفية لتحديد خط الحدود بين الريف والمغرب الخاضع لفرنسا، لكن لم تصل المبادرة الريفية إلى أي نتيجة.

كما قامت الحكومة الريفية فيما بعده وقبل انعقاد ما اصطلح على تسميته بـ “مؤتمر وجدة” بمراسلة مجلس الشعب الفرنسي ورجاله الأحرار الذين كانوا يتعاطفون مع القضية الريفية بصدد هذا النزاع المفتعل على الحدود الريفية مع المغرب الفرنسي، حيث كان رد الحكومة الريفية في شخص السيد أمحمذ الخطابي في رسالة مطولة بعثها إلى مجلس النواب الفرنسي يطالب فيها بصريح العبارة بالاعتراف باستقلال الدولة الريفية “والاعتراف بحقوقنا الطبيعية التي لا يمكن لنا أن نعيش بدونها –يضيف ويقول حول توغل عساكر المارشال ليوطي داخل أراضي الريف الجنوبية، قائلا- لأن من مطامعه (يقصد ليوطي) بعد ما تبين عجز الاسبان الاستيلاء علينا إلحاق بلادنا لحكومة مراكش كي يتسنى له أن يستعبدنا كما استعبد المغرب لسلطته بالقهر والقوة ودعاوى أوهن من بيت العنكبوت فصرنا مكلفين بإيقاع الحرب مع جنوده ورد هذا التيار الجارف ليقف عند حده.

يسترسل في الرسالة المطولة ويعرج على زيارته السابقة لباريس ويقول بأن ما يممنا باريس إلا ظنا منا في الشعب الفرنسي النبيل ورجاله الأحرار- أن يسمعوا نداءانا ويعترفوا بحق الشعب الريفي الذي لا يقاتل إلا عن واجب ولا يدافع إلا عن حق ولا يبتغي من كل ذلك إلا أن يعيش كالأمم حرية واستقلالا ومع مجاوريه بالمسالمة والوئام لأن مبدأنا التي أسسنا عليها نهضتنا القومية لا ترمي إلا إلى غاية واحدة وهي الوصول إلى السلم الذي هو ضالتنا المنشودة إذ لا تستقيم حياتنا الأدبية على الوجه الأكمل إلا به –يضيف في فقرات أخرى، قائلا- أليس من العار أن تتخذ دولتان عظيمتان من دول أوربا أولاة القوة والبأس وتتعاونا على شعب صغير لا يملك إلا روحاً حساسة وقلباً حياً يود أن يستميث في سبيل الحق” (أنظر محمد محمد عمر القاضي، أسد الريف: محمد عبد الكريم الخطابي، صفحات: 195-196-197-198).

يتبع.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: