أخبارأخبار الرئيسيةتاريخثقافة وفنون

المرس.. أقدم نظام “بنكي” بكبدانة (الريف)

المرس كلمة أمازيغية بصيغة المفرد ويقصد منها لغويا “مكان حط الرحال” وهو إسم جاء من فعل إمرس أي وضع على الأرض ليستقر..أما المرس إصطلاحيا فيعني: “المخزن المشترك” وهو عبارة عن مطمورات جماعية تحفر في بقع أرضية، غالبا تكون لا مالك لها، ويعود تاريخ نشأتها حسب المؤرخين الى الاف السنين، وتصنف في علم الأثار من بين أقدم الأنظمة البنكية، إلا أن وظيفتها كانت تكمن في تخزين الحبوب فقط، وذلك لغرض حمايتها من النهب والسرقة.

_ قانون تنظيم مخزن المرس

كانت طريقة إدارة هذا المخزن الجماعي، يتم من خلال قوانين عرفية لم تكن تكتب أو تدون ، بل كانت فقط شفاهية، سنها الأفراد لأنفسهم وصادقوا عليها لتكون إلزامية ولا يمكن لأي أحد من المراسين IMRASEN، التحايل عليها أو التظاهر بجهلها.. وكان هذا المرس يحتوي على العشرات من المطمورات THISERFIN، يخصص لكل أسرة حساب واحد وهو عبارة عن مطمورة واحدة أو يزيد على ذلك تكون خاصة بهم يدخرون فيها كل ما يملكونه من حبوب، وكانت هذه الأسر لا تأخد أي فائدة عن هذا الإدخار ولا تدفع أي مصارف مقابل ذلك بإستثناء واجبات الحراسة و الترميم، وحراستها كانت تتم تحت إشراف أمناء القبيلة مشهود لهم بالصدق والأمانة..

_ التوزيع الجغرافي للمرس بمنطقة كبدانة

تعتبر ” IMURAS”من المواقع التاريخية التي تزخر منها منطقة كبدانة بالريف حيث نجدها موزعة في العديد من المناطق داخل مجالها الجغرافي، وكلها تتشابه في وظيفتها ألإجتماعية ألا وهي تخزين الحبوب..كالشعير والقمح والزرع.. ومن الدلائل الواضحة على المدلول الوظيفي لكلمة ” LMER’S” هي نعت المطمورات الجماعية بهذا الإسم عند غالبية سكان المنطقة..كما ان لهذا الأسم حضور قوي في مناطق أخرى خارج حدود كبدانة كمرس بركان مثلا.

ومن بين IMURAS، المشهورة بالمنطقة على سبيل المثال لا الحصر، نجد الذي يتواجد بين دوار طجيوات ودوار بويخباش ناحية أركمان ومرس الزخانين بجماعة ياث الداوود ومرس جماعة البركانيين ومرس سيدي عثمان المتواجد بزايو.

ولمعرفة الدليل الأثري والتاريخي الذي يؤكد عراقة هذه المخازن الجماعية، قمنا بزيارة ميدانية لمرس زايو رفقة بعض الرواة الذين ساهموا معنا بشهاداتهم، وذلك مساهمة منهم في بناء الذات الجماعية ولو من الناحية الرمزية، ومن هذا المبدأ المشحون بحمولات إنسانية يسرد السيد أ. ع البالغ من العمر 71 عاما نقلا عن جده الذي عمر ما يزيد عن 98 عاما قوله..” أن مرس زايو له تاريخ عريق مرتبط بعهد الوطاسين، فحينما إقتحم هؤلاء المنطقة إستوطنوها بشكل دائم وإستقروا بألأماكن التي كانت تتوفر على جريان مياه دائمة، كلعزيب سيدي عبد الله و زايو سيدي عثمان.

فالأول بنوا فيه قصبة تعرف اليوم بثقصبت إوطاسين ب THIFARWIN، وكانوا يدفنون موتاهم هناك ولازالت مقبرتهم موجودة تابعة لتراب فرقة الزخانين إلى يومنا هذا. أما في إتجاه الغرب حيث يوجد عين زايو سيدي عثمان فقد إختار الوطاسيون هذا المكان ليكون مكان خاص للتسوق و التجارة، إذ عمدوا إلى بناء سبع دكاكين كانت ولازالت تعرف عند عامة ساكنة المنطقة ب تحونا إوطاسين.

والى جانب هذه الدكاكين وفي إتجاه الغرب كان يتواجد مخزن المرس، وهو عبارة عن مكان يحتوي على مجموعة من المطمورات لتخزين الحبوب يتم إستخراجها لأعراض معيشية أو لأجل البيع ويقوم AMRAS، عساس بحراستها تدفع له أجرته من قبل المالكين..”

ورجوعا للرواية التاريخية، نجد فعلا أنه في سنة 1472م حكم الوطاسيون الريف وبدأ ظهورهم مع المرينيين، حيث إقتسموا السلطة معهم فكان نصيبهم الريف ومن هنا بدأ توسعهم حتى أطاحوا بدولة بني مرين، ولكون الوطاسيين هم من سلالة أمازيغية ينحدرون من منطقة الزاب بالجزائر، فأول موطن إستقروا فيه لما إقتحموا أراضي الريف كانت المناطق الشرقية ومنها بالضبط منطقة كبدانة، وقد رحل هؤلاء عن المنطقة حينما إنهزموا وسقطت سلطتهم على يد السعديين سنة 1495م.

إلا أن مخزن المرس هذا لم يكن إبداعا أو إختراعا وطاسيا كما ذهب إليه الشاهد الأول، بل هو نظام أمازيغي عريق له تاريخ طويل ضارب في القدم بالمغرب، وكانت تنقسم هذه المخازن الى نوعين: فالتي كانت تكنى بالمرس فهي عبارة عن مطمورات لتخزين الحبوب فقط، وتكون جماعية لفرقة أو لدوار او لقبيلة أو خاصة لعائلة كبيرة من نسب واحد، وفي غالب الأحيان كانت كل فرقة من القبيلة تملك مرسا خاصا بها، ولهذا السبب نجد المرس كثير الإنتشار بالعديد من المناطق وخاصة منها كبدانة التي لا تكاد تخلو بدونه تقريبا جل فرقها الكبرى.

أما الصنف الآخر والتي تسمى ب IGUDAR، وتتواجد بالأطلس والجنوب، فهي لإدخار النفائس ونسخ الأملاك إضافة الى الحبوب والقطاني، وهي عبارة عن مجموعة حجرات تبنى في أماكن مرتفعة تكون شديدة الإنحدار، وتحاط بسور سميك.

_ كيف كان يتم إختيار موضع المرس..؟

لم تكن كل المناطق صالحة لحفر المطامير..” هكذا يسرد السيد ح – ع البالغ من العمر 69 عاما وهو من مواليد ومن معمري المنطقة، إذ يقول”.. أن هذه المخازن كانت لا تحفر في الأراضي الرملية، لأن ذلك سيعرضها للإنهيار في أي وقت وحين، بل كانت تحفر في أراض ذات إنحدار حتى لا تغمرها المياه وبالتالي تكون الحبوب عرضة للتلف والضياع. ويضيف قائلا”.. أن من مميزات هذه المطامير كذلك، أنها في حال حدوث حرائق عشوائية لا تتسرب إليها السنة النيران، لأنها مطمورة بحوالي 3 أمتار تحت سطح الأرض، ولبلوغ مدخل المخزن فقط، يستدعي ذلك حفر حوالى مترا واحدا، وهذا التميز جعلها تحافظ على سلامة المحصول بداخلها لمدة تتراوح ما بين ثلاثة الى خمس سنوات وأحيانا يزيد على ذلك. وتسمى الحبوب ب LHAYL، عند تجاوزها المدة المذكورة.

_ الشكل الهندسي لمخازن مرس زايو.

كانت مطامير مخزن المرس عبارة عن حفر تملس جوانبها بالطين المبلل الممزوج بالتبن، وتأخذ شكلا هندسيا شبيها الى حد ما شكل القنينة..؟!، إذ نجدها تضيق عند مدخلها و تتوسع في عمقها، ويصل هذا العمق الى ثلاثة أمتار أحيانا وسعة مخزونه تتراوح ما بين 40 الى 50 قنطارا. وكان للمطمورة غطاء دائري صنع من الحجر يسمى ب – THASWIRTH.

_الأسباب التي أدت الى إندثار المرس

بدأ المرس ينقرض بشكل تدريجي حينما بدأت مخازنه تتعرض لعمليات النهب والسرقة من قبل الحركات الموالية للمخزن، خاصة تلك التي كانت تجوب القبائل والقرى، مستغلة بذلك سلطة السلطان لفرض أداء واجبات الشرع، التي كانت تسمى ب” العشور”، إضافة الى جنود “لمحلات” الذين كانوا يغارون من فينة لأخرى على هذه المخازن، زيادة الى سنوات القحط والجفاف التي كانت تضرب المنطقة كل حين.

وسينتهي العمل بهذا النظام بشكل نهائي حينما إقتحم الإسبان أراضي شمال الريف، وإقتصر أهالي المنطقة أنذاك على حفر مطموراتهم داخل فناء مساكنهم.

نورالدين شوقي .. باحث في تاريخ وتراث كبدانة

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: