أخبارأخبار الرئيسيةتاريخ

محمد خرشيش: معركـة أنوال.. دروس وعبر

تحل هذه السنة الذكرى المئوية لمعركة أنوال المجيدة التي شكلت بحق ملحمة كفاحية خالدة، أثبت فيها المجاهدون الريفيون جدارتهم وقدرتهم على رفع التحدي الاستعماري بروح قتالية عالية، وإيمان عميق بعدالة قضيتهم الوطنية، دفاعا عن كرامتهم ووحدة أراضيهم وعزتهم.

إذ يمكن اعتبارها منعطفا حاسما في المسار الكفاحي للقبائل الريفية لأن نتائجها على المستويين العسكري والسياسي ساهمت في بلورة خارطة طريق حركة المقاومة الريفية في تعاملها مع المعطى الاستعماري الامبريالي في فترة ما بين الحربين، من خلال استثمار محكم لأشكالها الكفاحية المتجددة، وآلياتها التنظيمية المبتكرة ومشروعها التحرري الفريد، الذي مزج بين المواجهة العسكرية والاتصالات “الدبلوماسية”.

فأصداء المعركة وما أعقبها من انتصارات وإنجازات وصلت إلى ابعد مدى وطنيا وجهويا ودوليا، وأصبح اسم القائد الذي أشرف على تنظيمها وتوجيهها ملهما لحركات التحرر الوطني الريفي على المستوى الدولي، والتجربة الجهادية نموذجا يحتذى به من طرفهم في كفاحهم ضد المستعمر.

السـياق العام:

من المعروف أن اسبانيا كانت قد فقدت آخر معاقلها الاستعمارية في أمريكا اللاتينية في أواخر القرن 19، ومنذ ذلك الحين وهي تنتظر الحصول على حصتها من “الغنيمة” الاستعمارية في شمال افريقيا من أجل إعادة الاعتبار لمؤسستها العسكرية، وطي صفحات الهزائم المتلاحقة وإخفاقاتها المتكررة في الماضي القريب.

وقد تأتى لها ذلك بفعل احتدام التنافس الامبريالي بين فرنسا وبريطانيا، وحرص هذه الأخيرة على ضمان استمرار التوازن الجيواستراتيجي في الجنوب الغربي للبحر المتوسط…

كما يجب التأكيد على أن حركة المقاومة الريفية هي امتداد طبيعي للحركات الجهادية التي كانت المنطقة مسرحا لها وأبرزها تلك التي قادها الشريف محمد أمزيان (1909-1912).

من دهار أوبران إلى أنوال

لقد انتقلت علاقات آل الخطابي بالسلطات الإسبانية من مرحلة التعاون والحياد الإيجابي، إلى القطيعة والتصادم، ويمكن اعتبار الحرب العالمية الأولى محطة أساسية منذرة ببداية تحول هام على مستوى السياسة الاستعمارية، خاصة بعد إقدام الإسبان على اعتقال وسجن محمد بن عبد الكريم (1915-1917)، وإجراءهم لتغييرات هامة في الهيكلة الإدارية والتنظيمية للمنطقة الخليفية، توجت بتعيين الجنرال Berenger (برنكير) على رأس المندوبية السامية، والجنرال سلفستري كمسؤول على الجبهة الشرقية، إيذانا بالإعلان عن طموح صريح لإحكام السيطرة على القبائل الريفية من خلال التغلغل في عمق أراضيها وتكثيف تواجد الجيوش الاستعمارية وتوسيع دائرة مواقعها العسكرية المنتشرة في أرجائها.

وفي هذا الإطار، تأتي الانتصارات الهامة/الكبرى التي حققها الإسبان ابتداء من سنة 1920 في الجبهتين الغربية والشرقية من خلال دخول شفشاون، وتسريع وثيرة التقدم نحو قبيلة آيث ورياغل (القلب النابض) بثقة زائدة من طرف سلفستري الذي كان لا يتورع في التعبير عن استعجاله لشرب كأس شاي في بيت آل الخطابي بأجدير في أقرب الآجال، خاصة بعد أن استطاعت القوات الاستعمارية التمركز في أنوال في منتصف يناير 1921.

بدورهم أعيان قبيلة آيث ورياغل وعلى رأسهم محمد بن عبد الكريم، كانوا يتابعون عن كثب وبقلق شديد تقدم القوات الاستعمارية في اتجاه أراضيهم وكانوا على وعي “بالخطر الوشيك الذي كان يتهددهم”.

لذلك لم يترددوا في العمل على لم شملهم ورص صفوفهم من أجل التحضير لمواجهة الخطر الاستعماري الذي أصبح يطرق أبوابهم وقريبا من معاقلهم، ومنذ ذلك الحين، سيبرز الدور الريادي لمحمد بن عبد الكريم، باعتباره دينامو التحرك التعبوي الجهادي، ومبدع الخطط العسكرية الأصيلة (حرب العصابات)، لكبح جماح سلفستري وإفشال مخططه التوسعي الجهنمي من خلال إرساء قواعد وآليات صارمة للتعامل مع المستجدات المتلاحقة. ومنذ انعقاد مؤتمر امزورن الذي توج بأداء القسم (أنظر محمد عمر القاضي – أسد الريف…) تم الإعلان عن حملة تحسيسية واسعة لدى القبائل الريفية لحثهم على تدعيم الالتفاف على مشروع المقاومة لإيقاف المد الاستعماري، مع العلم أن المجاهدين في جبل القامة كانوا منهمكين في التحضير الجدي للمواجهة من خلال حفر الخنادق والقيام بدوريات المراقبة والمناورات التكتيكية الضرورية، في انتظار أي خطأ أو هفوة من جانب القوات الاستعمارية، وهذا ما تم بالفعل يوم فاتح يونيو 1921، عندما تحركت كتيبة من أنوال في اتجاه الموقع الاستراتيجي لظهر أبران، بدون أن تجد أمامها أية مقاومة تذكر.

فتمت عائدة من حيث أتت بعدما تركت 300 جندي في المركز المذكور، والذي تمت مهاجمته في نفس اليوم من طرف المجاهدين معلنين عن البداية الفعلية لحرب الريف التحريرية بانتصار ثمين ساهم في رفع معنويات المجاهدين بعد الاستيلاء على الكثير من السلاح والعتاد وتوجيه ضربة موجعة شكلت نكسة أولى وهزيمة نفسية كبرى للإسبان.

لكن فداحة الهزيمة لم تمنع سلفستري من الاستمرار في تقدمه نحو مركز أغريبن، الذي أصبح بدوره محاصرا من طرف المجاهدين بعدما أعطى عبد الكريم تعليمات صارمة للقيام بالتحصينات الضرورية في المراكز الاستراتيجية لإحكام الحصار على المركز المذكور، وقطع طرق إمداده في انتظار تحرك سلفستري من أنوال لإنقاذ الجنود المحاصرين، وهذا ما تم بالفعل.

وفي هذا الإطار، يقول عبد الكريم: “لقد كانت المعركة شديدة، يهجم فيها الجنرال سلفستري كل يوم، وهو في كل هجوم أكثر عنفا وشدة من قبل، ولكن المجاهدين كانوا متحصنين، ونظرا لقلة عددهم لم يكن يستطيع العدو أن يراهم، بينما كنا نرى العدو لكثرة أعداده، واضطراره في كل يوم إلى القيام ببعض المناورات التي تسبق كل هجوم، فكانت بنادقنا تصيب من أفراده مقتلا، وكنا في كل يوم نحصل على ذخيرة وبنادق جديدة”. (عمر أبو نصر – بطل الريف…).

بإيجاز شديد يمكن القول أن إصرار سلفستري على المضي قدما في اتجاه أجدير منتشيا بغروره وعجرفته جعله يسقط في فخ مقاومة منظمة استثمرت بشكل جيد نقط قوتها، وتفادت المواجهة المباشرة مع العدو، وهكذا منيت قوات الاحتلال بهزيمة ثقيلة أربكت حسابات الطبقة السياسية الاسبانية بعد انهيار أركان جيوشهم الجرارة المدججة بأحدث الآليات والتجهيزات العسكرية.

وهذا ما جعل الجنرال برينكير يقر عند وصوله إلى مليلية يوم 24 يوليوز 1921 بثقل الهزيمة وفداحتها قائلا: “هذه أكبر كارثة عرفتها إسبانيا في تاريخها”.

إن كارثة أنوال el desastre de Annual)) كما أسماها الإسبان كان لها وقع زلزال سياسي عميق أعاد الإسبان إلى نقطة البداية، أي مرحلة فقدان مستعمراتهم وانهيار إمبراطوريتهم، والأدهى من ذلك أن البرلمان الإسباني Cortes قرر أمام هول الهزيمة “الفاجعة”، تشكيل لجنة تقصي في ظروف وملابسات الهزيمة النكراء، وتبين بالملموس أن الجنرال سلفستري أبرز “المفقودين” كان يستأسد على الجميع بعلاقاته المباشرة مع ملك إسبانيا، لذلك هناك الكثير من الدراسات الإسبانية التي تعتبر/ تشير إلى أن الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بريمو دي ريفيرا Primo de Rivera في شتنبر 1923، لم يكن وليد الصدفة بل كان من نتائج معركة أنوال وما أعقبها من انتصارات وضعت المجاهدين أمام أبواب مليلية، إذ مثل خطة استباقية لتفادي طرح تقرير بيكاسو أمام الكورتيس الإسباني لكونه يحمل إشارات وقرائن تحمل الملك ضمنيا جزءا من المسؤولية في الهزيمة بحكم علاقاته الوطيدة بسلفستري… إلى جانب أغلب المسؤولين عن المؤسسة العسكرية الذين اتهموا بالتقصير في أداء مهامهم وتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقهم.

من خلال ما سبق ذكره، يتبين بشكل ملموس أن معركة أنوال ساهمت في بروز نجم شخصية كاريزمية استثمرت بذكاء نادر ما راكمته من تجربة في مسارها التعليمي (القرويين) والمهني (مليلية) من خلال التوفيق العقلاني بين “الأصالة” و”المعاصرة” وأبدعت في بلورة إستراتيجية عسكرية ميدانية (حرب العصابات) ترتكز على عامل المباغتة والمناورة والصبر والتأني والانضباط قبل الضرب بقوة، والاستغلال الأمثل للمجال الطبيعي وتوظيفه بطريقة مرنة (حفر الخنادق – التحركات المفاجئة – إحكام الحصار…)، مما أدى إلى تعطيل فعالية الآلة العسكرية الاستعمارية المتطورة. وهذا ما يفسر حجم الهزائم الإسبانية والخسائر البشرية والمادية التي تجاوزت حسب بعض المصادر عشرين ألف قتيل، (أنظر M.R. Madariaga D.Woolman – P.Fantaine أزرقان – بنعزوز حكيم…) وتم الاستيلاء على مئات المدافع وآلاف الرشاشات والبنادق ومختلف المعدات والملابس والمؤن والأدوات الصحية، أعدادا كافية لتجهيز جيش منظم تنظيما عصريا. وهذا ما دفع المستشرق الفرنسي فانسان مونتيل Vincent Monteil إلى تشبيهها بمعركة “ديان بيان فو” التي انهزم فيها الجيش الفرنسي في الهند الصينية وأطلق لقب “نابليون الريف” على بطلها عبد الكريم.

إن معركة أنوال لم تكن إلا تتويجا لسيرورة من الأحداث  المتلاحقة والتطورات المتسارعة بعد اندلاع الشرارة الأولى في يونيو 1921 بموقع ظهر أبران، وما أعقبها من انتصارات باهرة ومتوالية ساهمت في إحداث تماسك داخلي قوي، والحد من النزعة القبلية البدائية والانخراط التلقائي في حركة المقاومة لمختلف القبائل في الريف وخارجه.

والجدير بالذكر أن نفس الاستراتيجية العسكرية الأصيلة المتبعة ضد الإسبان تم اعتمادها بعد سنوات (أبريل 1925) ضد الجيش الفرنسي، واستطاعت تعطيل فعالية “المراكز المتحركة” التي كان قد أرسى دعائمها الماريشال ليوطي كسد منيع في مواجهة حركات المقاومة في منطقة ورغة، إذ أن جل هذه المراكز سقطت في يد المجاهدين، أو تم إخلاؤها في ظروف جد صعبة بعد أن ظلت محاصرة لمدة طويلة، وهنا لا بد من التنويه بخطة الحصار الصارم والفعال التي كان يسلكها المقاومون بدقة وانضباط لأوامر وتوجيهات قائد المقاومة محمد بن عبد الكريم . لذلك لم يتوان الزعيم الصيني ماوتسي تونغ إلى تذكير ياسر عرفات قائد حركة فتح آنذاك (1965) بالإرث النضال للخطابي الذي استحضره في مسار إنجاز ثورته.

فرنسا بدورها استدعت على وجه السرعة الماريشال بيتان Pétain “بطل فيردان” وخولته سلطات واسعة لتدبير ملف “الريف” بتنسيق محكم مع الجنرال بريمو دي ريفيرا Primo de Rivera والذي توج بالتحالف الفرنسي الإسباني، بعد أن أعطيت الأوامر لشن أكبر هجوم عسكري إمبريالي على حركة مقاومة شعبية في التاريخ الحديث والمعاصر، لينتهي الفصل الأخير بالإجهاز على الحركة وتطويق إمكانية استمرارية العمل المسلح من خلال تجسيد التحالف الشامل بين القوتين الاستعماريتين، وتجنيد كل إمكانياتهما العسكرية لحشد أكبر عدد ممكن من التعزيزات: برية، بحرية وجوية، إذ تجاوزت في مجملها 400.000 نفر.

محمد خرشيش، أستاذ التاريخ المعاصر والراهن جامعة عبد المالك السعدي تطوان

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: