أخبارأخبار الرئيسيةتاريخ

أسئلة حول حرب الريف والصورة الفوطوغرافية

سؤال: هل نتوفر على صورة توثق لمعركة أنوال؟ وإذا كان لا فلماذا تنعدم الصورة؟

جواب: لا نعلم بوجود صورة توثق لما حدث بأنوال على حسب علمي المتواضع. علينا أن نتذكر بأن أنوال ليست معركة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل كانت عبارة عن مسلسل حصار ثم انسحاب فملاحقة للقوات الإسبانية بدءا من موقع إغريبن الذي سقط بعد حصار بدأ يوم 17 يوليوز 1921، ومرورا بحصار موقع أنوال ثم سقوطه يوم 22 يوليوز، وانتهاء بلجوء الفارين الناجين إلى موقع العروي، والذين تعرضوا لحصار انتهى في 9 غشت بتقتيل غالبيتهم (حوالي 3000) خلافا لتعليمات بن عبد الكريم. لذلك فالوضع لا يشبه معركة بالمعنى التقليدي أو المتعارف عليه، ولم يسمح بهامش يمَكِّن المصورين، عسكريين أو مدنيين، من التقاط صور. الصور الوحيدة التي وصلتنا والتي ترتبط بهذا المسلسل هي صور الجثث المتحللة للجنود الإسبان في موقع العروي والتي التقطها الإسبان بعد إعادة سيطرتهم على الموقع بعد شهرين ونصف.

قد لا نحتاج للتذكير بأن أغلب صور حرب الريف الموجودة اليوم هي صور التقطها العسكريون وكذا المصورون المبعوثون من طرف المجلات والصحف الإسبانية. وهذا يعني بأن الجزء الأكبر من الصور التي يعتقد اليوم بأنها لمقاومين هي في الواقع صور موالين للإسبان من السكان المحليين، أو ما يسمى بالحرْكات الصديقة. فالصحفيون الفوتوغرافيون ركزوا في الغالب على المواقع العسكرية والجنود الإسبان وحياتهم اليومية داخل الثكنات والاستعدادات للعمليات العسكرية وكذا قوات المحاربين والمتعاونين مع الإسبان من المحليين. ونادرا جدا ما التقط هؤلاء المصورون صورا لقوات المقاومة. أما أغلب صور المقاومة الريفية ورجالها داخل المناطق المحررة فهي في الغالب من إنجاز صحفيين مستقلين مثل لويس ذي أوطيثا، مدير جريدة “الحرية”، والوسيط الفرنسي جان دو طايي.

سؤال: هل يمكن القول بأن إسبانيا قد تعاملت بصرامة مع “الصورة” أثناء حرب الريف حتى تحافظ على معنويات جنودها وأيضا حتى يمكنها توظيفها؟

جواب: لاشك أن الصور كانت عنصرا مهما في الترويج للإيديولوجيا الاستعمارية. لا ننسى أننا نتحدث هنا عن فترة عرفت انتشارا واسعا لما يسمى بالصحافة الفوتوغرافية، فكانت تصدر مجلات تصويرية عديدة مثل “موندو غرافيكو” (Mundo Grafico) و”نويفو موندو” (Nuevo Mundo) و”لا إسفيرا” (La Esfera). وكانت هذه المجلات الأسبوعية تخصِّص بانتظام صفحات عديدة لصور حروب إسبانيا في الريف. وقد لعبت الصورة دورا مهما في التأثير على الرأي العام في فترة كانت فيها نسبة الأمية بإسبانيا مرتفعة.

وعندما أعاد الإسبان السيطرة على موقع العروي في أواخر أكتوبر 1921، أصبح ممكنا للمصورين العودة إلى مسرح الأحداث، فبدأت تظهر في الأيام الموالية أولى الصور لما حدث في العروي على صفحات الجرائد والمجلات. إلى جانب رفع الرقابة العسكرية عن مهام هؤلاء المصورين، ثمة عامل آخر مهم، وهو أن المجلات التصويرية، ليس فقط في إسبانيا، أولت أهمية لصور الحرب والموت والجثث، وذلك لقدرتها على جذب القراء أو المستهلكين، بل إن هذا العامل لعب دورا لا يستهان به في الرفع من المبيعات. وهكذا وظفت صور الجثث المتحللة في العروي لإقناع الرأي العام الإسباني أولا بوحشية وهمجية العدو الريفي، ثم ثانيا، بضرورة معاقبة هذا العدو واستعمال كل الوسائل الضرورية لإخضاعه و”إبادته” دون أي اعتبار قانوني أو أخلاقي. وقد جاء القرار باستعمال الغازات السامة في هذا السياق بالتحديد، وهو مطلب أجمع عليه العسكريون والسياسيون من مشارب سياسية مختلفة.

إذا قارنا هذا مع فصل آخر من حرب الريف يشبه مسلسل أنوال نسبيا، أي انسحاب الشاون، فالأولويات السياسية مختلفة نوعا ما. تقتصر الصور المتوفرة اليوم فقط على عمليات التحاق جنود المواقع المجاورة بالشاون قبل بدء الانسحاب الجماعي. لكن لا توجد صور للانسحاب نفسه وللمسيرة نحو خط بن قريش جنوب تطوان التي سقط فيها الآلاف من الجنود الإسبان في مواقع دار أقوبع وشروطة وواد النخلة. ويعود هذا إلى التعليمات الصارمة للجنرال بريمو ذي ريفيرا، الذي أشرف شخصيا على العمليات من تطوان، وأمر بعدم نشر أي شيء متعلق بخسائر الإسبان في الانسحاب وعدم التحدث عما جرى. وقد وصلت هذه التعليمات حد التهديد بالإعدام ضد كل من خالف الأوامر من الجنود. كان التستر على سير العمليات والخسائر ضروريا للديكتاتور لإنجاح خطته في الانسحاب نحو خط بن قريش، وذلك استعدادا لتكثيف الحرب الكيماوية. انعدام الصور وندرة الشهادات وغياب أي تقرير رسمي أو لجنة تَقَصِّي (عكس أنوال) هي كلها عوامل ساهمت في استمرار الغموض الذي يكتنف موضوع خسائر الإسبان في انسحاب الشاون إلى اليوم، وهو ما تكشفه الأرقام المتفاوتة جدا في الكتابات حول الموضوع.

يجدر التذكير هنا بأننا نتحدث عن احتكار استعماري مطلق للصورة، ولا مجال للحديث عن تضارب أو تنافس بين الرواية الإسبانية والرواية الريفية المغربية. لا نعرف مثلا مصير الصور التي التقطها الريفيون أنفسهم. يذكر المراسل الأمريكي فنسنت شيين مثلا بأن مقر قيادة امحمد بن عبد الكريم في الجبهة الغربية في يناير 1925 كان يتوفر على آلة تصوير يتم استعمالها عند الحاجة. يعود هذا الاستعمال إلى مطلع 1923 على الأقل حسب بعض الروايات. ولا نعرف إلى اليوم إن كانت هذه المعدات والوثائق قد تعرضت للتدمير أو تم الاستيلاء عليها من طرف الفرنسيين.

سؤال: توجد على الشبكة العنكبوتية بل وفي عدد من الكتب والكتابات التي تناولت حرب الريف صور تنسب لأنوال لكنها غير صحيحة؟ لماذا لم يتم تصحيح هذه المغالطات من طرف الباحثين؟ وألا ترى بأن إعادة كتابة التاريخ تبدأ بتصحيح هذه المغالطات حول الصورة؟

جواب: توظيف الصورة خارج سياقها وربطها بحدث غير الحدث الذي تؤرخ له ليس ظاهرة جديدة، بل هي لصيقة بتاريخ الصورة منذ بداياته، خاصة مع تسارع التطور التقني وتوفر إمكانيات النشر والتوزيع الفوتوغرافي، وهو خطر سبق أن نبه إليه الفيلسوف الألماني والتر بنجامين منذ قرن تقريبا، خاصة عندما تنتقل الصورة دون أن تكون مرفقة بالوصف التوضيحي الخاص بها. وتطرح مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات الإنترنت هذا المشكل اليوم بشكل أكثر حدة. نعيش عصر نقل الصورة (والفيديو) بامتياز، لدرجة أننا لا نستسيغ أن يكون هناك حدث دون صورة أو فيديو، وإلا فإننا نكاد نشك في حدوثه أصلا، فيصبح “لا-حدثا” (non-événement). قد يكون خلط البعض بين أحداث تاريخية معينة وصور لا تمت لتلك الأحداث بصلة أمرا تغري به تمثلاتنا حول الحدث، فنساهم بذلك في تكريس أسطرة الحدث. ويتعلق الأمر هنا خاصة بتلك الأحداث التي تنعدم فيها الصور. لذلك قد نجد مثلا صورة يدَّعى بأنها لأنوال، أو صورة لمجزرة من الحرب الأهلية الإسبانية يدَّعى بأنها تعود لانتفاضة الريف سنة 58-59 أو انتفاضة 1984. لا شك أن مثل هذا التلاعب مرفوض ويجب التنبيه إليه سواء كان مصدره صفحات الإنترنت أو هيئات كبرى كالجرائد الوطنية والقنوات التلفزية (كتوظيف قناة مغربية لصور أحداث شغب كروي في مدينة مغربية أخرى وربطها بحراك الريف ومدينة الحسيمة في مسيرة عيد الفطر يوم 26 يونيو 2017).

لكن كما أشرت في سؤالك، الأكاديميون أيضا قد يقعون في هذا الخلط. في تتبعي لتاريخ واستعمالات صورة شهيرة من حرب الريف، وهي صورة الجنود الإسبان وهم يحملون بين أيديهم رؤوس مقاومين (بحث قيد الإنجاز)، تبين بأن لهذه الصورة تاريخ طويل من التوظيف السياسي والإيديولوجي منذ سنة 1926 إلى اليوم، حتى أن كتابا مرموقين سقطوا هم أيضا في هذا الخلط، كان آخرهم المفكر الفرنسي ميشيل أونفري الذي ضمَّنها في كتاب له حول ألبير كامو صدر سنة 2012، وأرجعها للحرب الأهلية الإسبانية سنة 1936. تتفاوت أسباب هذا النوع من المغالطات، لكن لا أعتقد أنه من السهل التعميم حول هذه المسألة. في جميع الأحوال، وبالعودة للسياق “المغربي”، يستوجب تصحيح هذه المغالطات نوعا من تقاليد “ثقافة التواصل النقدي” بين الباحثين حسب تعبير عبد الأحد السبتي، وهو مستوى من النقاش ليس متقدما في بلادنا للأسف، إذ كما يلاحظ المؤرخ المغربي، غالبا ما تستقبل الإصدارات بين الباحثين “إما بموقف المجاملة اللامشروطة، وإما بموقف التجاهل والصمت”، وهو ما لا يساعد على خلق نقاش علمي رصين ومستمر كفيل بتصحيح المغالطات.

(مساهمة الأستاذ محمد الداودي في ملف المساء حول مئوية أنوال نهاية هذا الأسبوع)

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: