أخبارأخبار الرئيسيةتاريخ

جمهورية الريف: بدايات قيام الدولة، الإصلاحات، الديبلوماسية الريفية، المفاوضات الأخيرة، ثم السقوط

قبل وفاة عبد الكريم الخطابي دعا ابنيه مولاي محند (1) وأخاه أمحمد وقال لهما: “إذا لم تستطيعا الدفاع عن استقلال الريف وحقوقه فغادراه إلى مكان غيره”(2). ليشكل ذلك نقطة انطلاق الاستعدادات المكثفة(3) لترجمة الوصية، ومواصلة السير في استقلال الريف.

I- بداية الحرب الريفية التحريرية الثانية:

في منتصف ابريل من سنة 1921 توجهت قبائل آيت ورياغل وآيت تمسمان وآيت إبقوين وآيت توزين إلى جبل قاما ـ “أذرار ن رقمث” ـ لعقد الاجتماع حول الأوضاع التي كانت تعرفها المنطقة الريفية. وبعد نقاشات وجدالات كثيرة دامت حتى بداية شهر ماي من نفس السنة استطاع مولاي محند أن يوحد القبائل الريفية ويضع حدا للصراعات التي كانت تمزق المجتمع الريفي، ويقضي على ظاهرة الثأر بين القبائل، فتعاهدت هذه الأخيرة على توحيد صفوفها والدفاع عن أرضها. لتنطلق بعد ذلك شرارة الكفاح المسلح وبداية الحرب التحريرية الثانية التي بدأت مباشرة في فاتح يونيو 1921 مع معركة “دهار أبران” الذي كان مركزا استراتيجيا للمعسكر الإسباني. وبعد معركة قوية بين الثوار الريفيين الذين لم يكن يتعد عددهم 300 رجل تمكنوا من هزم الإسبان، حيث سقط 400 رجل من القوات الإسبانية وغنم الريفيون الكثير من البنادق والمدافع. وبعد هذا النصر تقاطرت القبائل الريفية الأخرى تعرض تأييدها وبيعتها(4) لمولاي محند أميرا عليها.

وفي السابع عشر من يوليوز 1921 تكرر نفس السيناريو وانتصر الريفيون في “إغريبن”. ثم بعد ذلك، وبالضبط يوم 21 يوليوز 1921 نشبت معركة أخرى والمعروفة بـ”ملحمة أنوال” ـ “ذنواتشت” ـ وكانت القوات الإسبانية محتشدة بأكثر من 24000 مقاتل مقابل 5000 جندي ريفي. وبعد معركة شديدة دامت حتى غاية 26 منه، تمكن الريفيون من سحق الجيوش الإسبانية وكانت حصيلة الإسبان أكثر من 15 ألف قتيل و570 أسير بالإضافة إلى مقتل قائدهم الجنرال سلفستر. وغنم الريفيون من تلك المعركة 500 مدفع من مختلف الصناعات و30000 بندقية و1000000 خرطوشة وسيارات وشاحنات ومواد أخرى(5). هذا بالإضافة إلى استرجاع 130 موقعا من المواقع التي احتلتها إسبانيا. بعد الانتصار العظيم الذي حققته المقاومة الريفية في ملحمة أنوال(6)، أصبح الريف يتوفر على جيش كبير ومعدات كثيرة(7)، الشيء الذي أدى بمولاي محند إلى التفكير في تأسيس كيان مستقل، حتى تنجح القضية الريفية.

II- قيام الجمهورية الريفية:

دعا مولاي محند السكان والقبائل إلى اجتماع عام في معسكره، فلبت القبائل النداء، وعُقد مؤتمر شعبي مُثّلت فيه جميع القبائل، فاتفق الجميع على الدفاع عن أرض الريف، وتأسيس نظام سياسي، فتم تشكيل مجلس عام عرف بالجمعية الوطنية، مثلت فيه إرادة الشعب، وكان دور المجلس هو تنظيم المقاومة الوطنية، وإدارة شؤون البلاد. واتخذ أول قراره وهو إعلان استقلال الريف، وتأسيس حكومة دستورية جمهورية. وكانت من العناصر الشابة(8) ويرأسها مولاي محند(9) زعيم الثورة. وتم وضع دستور للجمهورية مبدؤه سلطة الشعب، ونص الدستور على تشكيل وزارات، وجعل السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في يد الجمعية الوطنية التي يرأسها الأمير مولاي محند، ونص على أن رجال الحكومة مسؤولون أمام رئيس الجمهورية، والرئيس مسؤول أمام الجمعية الوطنية، واختارت الجمعية هذه القاعدة في دستورها وفقا لتقاليد الريف وعاداته المعروفة محليا بـ”إزرفان”.

أما فيما يتعلق بالوزارات فقد نص الدستور على تشكيل أربعة مناصب وهي مستشار رئيس الجمهورية، وهو يقوم مقام رئيس الوزارة، ووزير الخارجية، ووزير المالية، ووزير التجارة. أما بقية الأعمال الأخرى كالحربية فقد جعلها الدستور من اختصاص رئيس الجمهورية(10). ثم وضعت الجمعية الوطنية ميثاقا قوميا يكون المثل الأعلى للشعب الريفي، وقد أعلنتها حكومة مولاي محند كما يلي:

– يان: عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية(11)

– سين: جلاء الإسبان عن جميع الأراضي الريفية

– كراض: الاعتراف بالاستقلال التام للدولة الريفية

– كوز: تشكيل حكومة جمهورية دستورية

– سموس: أن تدفع إسبانيا تعويضات للريفيين عن الخسائر التي ألحقت بهم جراء الاحتلال

– سذيس: إقامة علاقات طيبة مع جميع الدول، وعقد معهم عقود تجارية.

كما اختارت الجمهورية علما لدولتها أرضه حمراء وفي وسطه نجمة خضراء سداسية ضمن هلال في رقعة بيضاء. كما نص الدستور على جعل أجدير العاصمة السياسية للجمهورية الريفية. وهي الجمهورية الأمازيغية الوحيدة التي تأسست في العصر الحديث.

III- الإصلاحات في الجمهورية الريفية:

أسس مولاي محند جيشا نظاميا له قواده ومقاتلوه من الفرسان والمشاة والمدفعية، حيث كان على رأس كل مائة من المشاة قائد يدعى قائد المائة وعلى كل خمسة وعشرين فردا قائد ويدعى الخمسة والعشرين، وعلى رأس كل عشرة قائد يدعى قائد العشرة، فكانوا يتحركون حسب أوامر القيادة العامة.

كما أقر مولاي محند التجنيد العام بحيث أصبح كل رجل في الريف مكلفا بالدفاع عن بلاده(12) حتى وصل عدد الجيش إلى 130000 مقاتل. وكان لباسهم موحدا، يلبسون عمامة زرقاء وجلبابا قصيرا ويحملون “أزعبور”، وهي محفظة صغيرة يودعون فيها الرصاص أثناء خروجهم إلى الجبهة. كما كانت لهم مدافع وطائرات (13) وأسلحة كثيرة بعضها اشتروها(14) والأخرى غنموها من الإسبان.

كما عملت الجمعية الوطنية على تنظيم الإدارة المدنية والقضاء على الفتن والثورات التي كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها. وقامت ببناء الاقتصاد فنظمت مالية البلاد ونظمت التجارة والصناعة والزراعة.. وأصلحت الإدارة وأسست المدارس بمختلف علومها من الرياضيات والعلوم العسكرية وغيرها من العلوم.. وأرسلت البعثات العلمية إلى أوربا. وأنشئت المستشفيات ومدت الجمهورية بأسلاك الهاتف وشقت الطرق… وغيرها من الإصلاحات الهامة(15). كما كانت للجمهورية الريفية سفينة تجارية مسلحة يرفرف فوقها العلم الريفي، وشاركت في بعض المعارك، وقامت بمراقبة السواحل الريفية.

IV- الديبلوماسية الريفية:

تعتبر سنة 1923 بالنسبة للجمهورية الريفية سنة التحركات الديبلوماسية بامتياز، وهي السنة التي برزت رسميا في المنتظم الدولي، وقامت الحكومة بإرسال الوفود إلى دول العالم وطلبت من فرنسا وبريطانيا وبابا الفاتيكان الاعتراف بالجمهورية الريفية، كما سعت الجمهورية الريفية إلى الانضمام إلى عصبة الأمم من أجل الحصول على الاعتراف الرسمي بوجودها، إلا أن المسعى لم يتحقق نظرا لسيطرة الدول الإمبريالية على أجهزة العصبة. وقام مولاي محند بإرسال شقيقه أمحمد رفقة الحاج حتمي إلى باريس، واجتمعا هناك مع بعض الشخصيات الفرنسية منهم النائب الشيوعي “برتون” و”بنفيله” الذي أظهر عطفا مع الجمهورية الريفية ثم توجها بعد ذلك إلى تلمسان ثم الجزائر العاصمة واجتمعا بالسيد حدو وبعض الشخصيات ورجال الأعمال سعيا لشراء بعض الطائرات. ثم أرسل مولاي محند وفدا آخر إلى لندن وأذيع هناك خطابه الذي وجهه إلى العالم، ولطوله نقتصر على الفقرة الأخيرة يقول: “نريد أن نصرح لكم أننا نطالب باستقلالنا وحرية وطننا، استقلالا تعترف به الدول التي تدير دفة العالم”. كما قام الوفد بعدة أنشطة ديبلوماسية واجتماعات مع المعنيين بالأمر، وخرجات إعلامية من أجل فضح الجرائم التي اقترفتها إسبانيا في حق الشعب الريفي، وكسب الأصوات إلى القضية الريفية.

فصرح الوفد لمجلة “قبة المسلم” بما يلي: “إن إسبانيا بعد أن فشلت بحربها معنا عمدت إلى الحصار البحري وأخذت ترمي قرانا بقنابلها مستعملة حرب الجبن والدناءة، فلا يقع في يدها أسير منا إلا وتمثل به أفظع تمثيل بينما نحن لا نعامل أسراها إلا بالحسنى (..) نحن اليوم نتألم من الحرب على أن هذا الألم نستعذبه في سبيل استقلال بلادنا (..) ولقد وفدنا إلى أوربا وبودنا إسماع صوتنا وشرح قضيتنا إلى العالم المتمدن”.

وفي تصريح آخر لمجلة باريزية قال الوفد “(..) أشهروا علينا الحرب وجردت على الريف حملة عسكرية تتألف من 90 ألف مقاتل كاملة العدة والعدد واتخذت جميع الوسائل العنيفة والمواد المهلكة (..) وقام جيش هذه الأمة بأنواع من الهمجية يتحاشى القلم عن ذكرها (..) خربوا الديار، واغتصبوا الأملاك، واستباحوا النساء، وقاتلوا الرجال، واضطهدوا الدين وهتكوا الأعراض، وساموا الأهالي من صنوف العذاب ألوانا…”.

وفي غشت 1923 أذاع مولاي محند منشورا قال فيه: “إن الريفيين قادرون على حكم بلادهم ومستعدون أن يبرهنوا كما برهن الترك على أنهم يستطيعون بلوغ مراميهم بقوة ساعدهم. إن جمهورية الريف التي أعلنت سنة 1921 ليست معادية للإسبانيين إذا كانوا يعترفون باستقلال الريفيين”.

وقد بذل مولاي محند الكثير من الجهود السياسية من أجل الاعتراف باستقلال الريف، ففي شهر أبريل 1923 أرسل كتابا إلى “مكدونلد” رئيس الوزارة البريطانية هذا نصه: “تبذل حكومة الريف كل نفيس في هذا الصراع الدموي المؤلم، وتجاهد في سبيل استقلال بلادها الذي يهدده الإسبانيون الظلمة المعتدون على حقوق الإنسان.. إنني أكتب لك باسم الإنسانية المعذبة لتتوسط بيني وبين العدو المعتدي حتى تنتهي هذه الحرب المرعبة التي تفتك بنفوس بريئة. وها أنا أصرح لك بصفتي أمير الريف المعترف به أنني مستعد أن أرسل من قبلي مندوبين في المكان والزمن الذي تحددونه للمفاوضة في شروط الصلح على أساس استقلال إمارة الريف استقلالا تاما وحفظ كرامتها كأمة حرة وإلا فالسيف خير حكم بيني وبينهم والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء”.

ولما رأى مولاي محند كتابه لم يسفر عن أية نتيجة أرسل إليه الكتاب الثاني قال فيه: “نعرف أننا قد أتينا بكتابنا هذا لكي نسألكم باسم الإنسانية أن تخابروا الدولة الإسبانية لكي تسحب جنودها من بلادنا الريفية، فإذا فعلت هذا يكون لكم الأجر والثواب بحقن دماء العباد، وإذا أبت فإن السيف بيننا والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء”. لكن رئيس الوزارة البريطانية أهمل الكتابين، مما جعل مولاي محند يعول على مخاطبة عصبة الأمم لأجل أن تؤيده على استقلال الريف، وقد حاول أن يصل خطابه بواسطة الحكومة البريطانية، حيث خاطب الوكالة البريطانية في طنجة أكثر من مرة لأجل أن تساعده على وضع القضية الريفية في عصبة الأمم، إلا أن الوكالة رفضت الطلب خوفا من مصالحها مع إسبانيا، وخاصة مصالحها في العراق.

V- السلام مقابل الاعتراف باستقلال الريف:

أما في الجانب الحربي فإن المعارك قد اشتدت بين الريفيين والإسبان، ففي 7 يوليوز 1923 هجمت القوات الريفية بحوالي 7000 جندي على خط درسة – الشاون، واشتبكت مع القوات الإسبانية التي كانت تعسكر هناك بحوالي 30 ألف مقاتل. وبعد معركة شديدة خسرت القوات الإسبانية حوالي 1000 مقاتل بين قتيل وجريح. بعد ذلك وجه الريفيون قواتهم صوب منطقة تركيست وسحقوا القوات الإسبانية(16). فما أن علمت الحكومة الإسبانية بتلك الكارثة حتى سارعت إلى عقد مجلس الوزراء، فقررت أن ترسل وفدا إلى الجمهورية الريفية للمفاوضة في عقد الصلح، وفي شهر يوليو اجتمع الوفدان الإسباني والريفي في تطوان، وبعد مفاوضات عسيرة خرج الجانبان بدون التوصل إلى حل، لأن الوفد الريفي أصر على تطبيق الميثاق القومي السالف الذكر. ومنها الاعتراف باستقلال الريف. ثم بعد ذلك دارت المخابرات بين سكرتير الوفد الإسباني ووزير خارجية الجمهورية الريفية. واقترحت إسبانيا ما يلي:

– يان: أن تكون المخابرات إما في الجزيرة وإما في المركب كما وقعت المخابرة الأخيرة.

– سين: لا يمكن المفاوضة فيما يتعلق باستقلال الريف ولا في شيء بغير ما هو معقود دوليا.

– كراض: تقع المفاوضات في شأن توسيع دائرة التجارة والصناعة والفلاحة في الريف والإعانات المادية من جانب المخزن والدولة الحامية.

– كوز: تقع المخابرة أيضا في شأن الضمانات لتملك الأراضي.

فكان جواب حكومة الريف في شخص محمد بن محمد أزرقان وزير الخارجية، وهذه بعض فقرات خطابه: “إن الحكومة الريفية -التي تأسست على قواعد عصرية وقوانين مدنية- تعتبر مستقلة سياسيا واقتصاديا آملة أن تعيش حرة كما عاشت قرونا وكما تعيش جميع الشعوب، وترى لنفسها أحقية امتلاك تراثها قبل كل دولة (..) وإننا نعجب أيضا كيف أنكم تجاهلتم أن مصالح إسبانيا نفسها هي مسالمة الريف والاعتراف بحقوقه واستقلاله والمحافظة على علائق الجوار وتمتين عرى الاتحاد مع الشعب الريفي عوضا عن التعدي عليه وإهانةته وهضم حقوقه (..) ولا يسعني إلا أن أصرح لكم تصريحا نهائيا أن الريف لا يعدل ولا يغير خطته التي سار عليها الوفد وهو أنه لا يفتح المخابرة في الصلح إلا على أساس اعتراف إسبانيا باستقلال الريف”. وانتهت المخابرة بدون نتيجة لتستمر الحرب مرة أخرى.

وفي شهر شتنبر 1924 نشب القتال بين الجانبين قرب مركز “تمزغت”، وانتهى بانتصار القوات الريفية، ثم تلتها معركة أخرى في منطقة الشاون وانهزم فيها مرة أخرى الإسبان، وغنم الريفيون 75 سيارة كبيرة والكثير من الذخائر الحربية. واستولوا على المراكز الإسبانية على خط عفريت – آيت عروس. مما أدى إلى زعزعة الحكومة الإسبانية، وبدأت تطلب المفاوضات مرة أخرى في عقد الهدنة، حيث عرض الجنرال بريمودي ريفيرا الصلح مع الريف على أن يترك المواقع الداخلية ويكتفي بالموانئ الساحلية، فكان رد الحكومة الريفية في شخص محمد بن محمادي الذي قال “إن الثوار في موقع الغلبة وإسبانيا مغلوبة” فاشترط لعقد الصلح أن تدفع إسبانيا تعويضات مادية وتعترف باستقلال الريف، فرفضت الشروط الريفية، لتندلع الحرب مرة أخرى، ومع فرنسا أيضا. ففي شهر يوليوز 1925 هاجمت قوات مولاي محند(17) على العساكر الفرنسية على حدود فاس، وخسرت القوات الفرنسية 5725 رجلا، منهم 1006 قتيلا و3711 جريحا و1008 لم يعثر على أثر لهم. ونشبت بعد ذلك معارك طويلة والمعروفة بحرب الأشهر الثلاثة بداية من شهر مارس 1925، وكانت بسبب النزاع عن الحدود بين الجمهورية الريفية ومنطقة الحماية الفرنسية. وفي تلك الفترة كان الريفيون قد فتحوا جبهتين للقتال، الأولى ضد الإسبان في تطوان والثانية ضد الفرنسيين على مقربة من مدينة فاس التي كانت محاصرة بحوالي 25 ألف من الجيوش النظامية و50 ألف من قوات رجال القبائل القريبة من المعركة، مما أصبح يهدد الحماية الفرنسية في مراكش (المغرب).

فاضطر وزير الخارجية الفرنسية إلى طلب المساعدة والموافقة من بريطانيا التحالف الذي سيجمع بين فرنسا وإسبانيا ضد الجمهورية الريفية مقابل أن تحصل بريطانيا على مصالح في العراق. فنجحت مساعي فرنسا، وعقد الجانبان الفرنسي والإسباني اجتماعهم الأول، وتوصلوا إلى اتفاق يقضي بالتعاون بين بوارج الدولتين على مراقبة السواحل الريفية لمنع الريفيين من شراء الأسلحة عن طريق البحر، ثم بعد ذلك تلاه الاتفاق الثاني يوم 5 يوليوز 1925 الذي نص على فتح المفاوضات مع الحكومة الريفية في مدينة وجدة. وعقد مؤتمر وجدة بحضور الوفد الريفي، واقترحت إسبانيا وفرنسا شروط الصلح وهي كالتالي:

– يان: الضمان لمولاي محند وأهل الريف الحرية التامة في الشؤون الزراعية والاقتصادية تحت سيادة سلطان المغرب الأقصى.

– سين: تسليم السلاح مع الاحتفاظ بكمية قليلة.

وهذه الشروط لم يقبلها الوفد الريفي، وأصروا على الاعتراف باستقلال الريف، إذا أرادوا السلام، فمني مؤتمر وجدة بالفشل بعد أن طلبوا مولاي محند(18) مغادرة الريف.

VI- سقوط الجمهورية الريفية:

بعد فشل مؤتمر وجدة تشكل تحالف دولي شمل إسبانيا وفرنسا والمخزن المغربي الذي كان بمثابة العدوان الثلاثي على الجمهورية الريفية بالإضافة إلى الاستعانة بالجنود المرتزقة (19) من شمال إفريقيا. وعقد مجلس حربي مشترك بقيادة الجنرال بواشو في القيادة الفرنسية وسان خورخو في القيادة الإسبانية واتفقوا على الهجوم دفعة واحدة على جميع الاتجاهات من الجمهورية الريفية.

وبعد المعارك الكثيرة في شهر أكتوبر الذي كان يصادف فصل الشتاء من سنة 1925 تمكنت القوات الفرنسية من دخول تونات وبيبان وجبل مسعود وقوات أخرى احتلت جبل الناظور وتمكنت من الاتصال بالقوات الإسبانية التي كانت تتقدم من ميضار. وما هي إلا أيام حتى تمكنت قوات أخرى بقيادة الجنرال “إيبوس” من الاستيلاء على تركيست، وفي الثامن من شهر شتنبر 1925 تمكنت قوات التحالف من الاستيلاء على العاصمة الريفية “أجدير” بعد الإنزال المكثف على شاطئ الحسيمة.
وقد استعملت في هذا الزحف كل الأسلحة الفتاكة التي كانت موجودة آنذاك زمن الحرب العالمية الأولى من الغازات السامة “أرهاج” وقنابل الطائرات والمدافع التي كانت تطلق نيرانها على المراكز الريفية ليلا ونهارا فتحدث الذعر في سكان الريف. وأخذ الاضطراب يستولي على الجيش الريفي وبدأت بعض القبائل تتمرد. وأمام هذا الوضع اضطر مولاي محند إلى تسليم نفسه (20) إلى القوات الفرنسية في تركيست، لتكون بذلك نهاية وجود الجمهورية الريفية وتبخر الحلم الريفي.

ونختم هذا البحث بشهادة أدلى بها مولاي محند في حق دولته إذ يقول: “أردت أن أجعل الريف بلادا مستقلة كإسبانيا وفرنسا. وأنشئ فيه دولة حرة ذات سيادة، لا إمارة خاضعة لأحكام الحماية (..) أردت أن يشعر مواطني أن لهم وطنا كما لهم دين”.

المراجع:

الإستشهادات الواردة في هذا البحث مأخوذة من كتاب “بطل الريف عبد الكريم الخطابي” ، صدر سنة 1934 ، تخير فصوله و عربها عن بعض المصادر الأجنبية عمر أبو النصر ، نشر في حلقات بمناسبة شهر رمضان في جريدة العلم (المغربية) بداية من 27 أكتوبر 2003.

1- هو محمد بن عبد الكرريم الخطابي، وعرف بالريف بعدة ألقاب أهمها : مولاي محند ، رقايذ محند ، ميس نسي عبد الكريم… بينما يعرف خارج الريف بعبد الكريم نسبة إلى أبيه، وسأكتفي في هذا البحث بمولاي محند.

2- انظر جريدة لوماتان الفرنسية (1926).

3 – مولاي محند: “من أجل جمع شعبي على كلمة واحدة سافرت ليل نهار عبر قرى الريف من أجل تحسيس السكان وتعبئتهم ضد الخطر الموحد”.

4 – من بين الموقعين على البيعة: محمد علي الغماري الريفي – علي بن الحاج محمد الخزيمي – بلقاسم بن عبد القادر الحسني – شعيب بن الحاج عبد الرحمن اليعقوبي – محمد بن الحاج الصالح – أحمد بن المقدم التمسماني – محمد بن عمار التباس – شعيب بن ميمون بن علال الوليشكي – محمد بن الحاج محمادي التمسماني – بولحية – الشركي…

5 – مولاي محند: “غنمنا في معركة أنوال كمية وافرة من الأدوية وقد كفتنا هذه الكمية ما يقرب عن سنتين”.

6 – بعد هذه المعركة أصبح مولاي محند يلقب في الصحافة الأجنبية بنابليون الريف ويسمى في الوثائق التاريخية الغربية ببطل الريف، وفي أمريكا اللاتينية يقارن بسيمون بوليفار أحد رواد الحركة التحريرية هناك.

7 – مولاي محند: “إن إسبانيا قدمت لنا في أيام كل ما نحن بحاجة إليه من الذخائر لتأليف جيش قوي وتغذيته مدة شهر”.

8 – بخصوص أعضاء الحكومة الريفية راجع محمد عمر القاضي “أسد الريف: محمد عبد الكريم الخطابي”، صفحة 133-134.

9 – كان في التاسعة والثلاثين من عمره.

10 – عبد الرحمن اليوسفي: “المؤسسات الدستورية للجمهورية الريفية” ضمن كتاب “عبد الكريم وجمهورية الريف”.

11 – هي وثيقة وقعت سنة 1912 بين المخزن وفرنسا لحماية فرنسا المخزن من الأمازيغ أو ما يعرف في قاموسهم “بالسيبة”. وقد اعتبر مولاي محند السلطان يوسف مفروضا من طرف الفرنسيين، مما أدى بالسلطان إلى تنظيم تحركات كثيرة وكان على رأسها أخوه المأمون بفاس وقام بالدعاية عبر المسجد لإدانة مولاي محند كمتمرد وخارج عن الطاعة.

12 – كان عدد سكان الريف في تلك الفترة حوالي 1000000 نسمة.

13 – مولاي محند: “الضرورة العسكرية كانت تقتضي أن يكون لدي بعض الطائرات أعزز بها نفوذي وأؤثر بواسطتها على قبائلي وأبعث بواسطتها الخوف في قلوب الإسبانيين، حين يرون أن خصمهم ليس أقل منهم عدة وعددا”.

14 – مولاي محند: “كانت تأتيني الذخائر والمعدات الحربية من جبل طارق بطريقة البحر طبعا وعلى البواخر الصغيرة والكبيرة”.

15 – في تصريح أحد الوفود الريفية في لندن لمجلة “صدى الإسلام”: “فمن الوجهة العامة حالتنا ولله الحمد مرضية جدا، وسنة 1921 كانت علينا سنة خيرات وبركات، إذ كنا نشتري أي صنف من المأكولات أرخص بخمس مرات مما هو في بلاد الجزائر، وكذلك الأمن العام تام، ففي السنة وقع عندنا حادثة قتل وحادثة سرقة لا غير”.

16 – وصفها مراسل التايمز بمثل معركة أنوال.

17 – مولاي محند: ”إنني مضطر اليوم على المقاومة حتى النهاية، وما بقي في عرق ينبض، حتى يتفق الإسبانيون والفرنسيون على الاعتراف باستقلال الريف”.

18 – مولاي محند: “لو أني قبلت بهذا الشرط لعدني الريف هاربا خائنا يترك بلاده في وقت هي أكثر ما تكون بحاجة إليه”.

19 – مولاي محند: “يا أيها المسلمون التونسيون والجزائريون إن الأمر الذي يشق علينا تحمله هو أن نرى أبناءكم يساقون قهرا لمحاربتنا (…) إن أربعة أخماس الجيوش التي هي على حدودنا شاهرة السلاح في وجوهنا هم من أبنائكم أيها الإخوان (..) فدولة الفرنسيين تجند اليوم أبناءكم بالجبر وتسوقهم لمقاتلتنا”. انظر نص الرسالة التي وجهها مولاي محند إلى الجزائريين والتونسيين، سنة 1925.

20 – مولاي محند: حول أسباب استسلامه: “لقد كنت أحارب دولتين قويتين، ولم يكن لدي من الرجال غير عصبة قليلة (…) إن فشلي أصبح أمرا منظورا، فرأيت الحكمة الإنسانية تقضي علي بالتسليم ورمي السلاح رحمة بسكان الريف وقبائله أن تلم بهم ويلات حرب لم يبق فيها أمل، فتهب بالبقية الباقية منهم (..) ولكنني كنت قررت قبلا أن أهاجم الإسبان على رأس فرقة مخلصة من رجالي فلا أرجع عنهم إلا بعد أن أسقط في ساحة الوغى قتيلا دفاعا عن بلادي ووطني. ولكن أنصاري لم يرضوا فكرتي هذه، وأخذوا يحاورونني فعدلت عندئذ عن فكرتي هذه وقررت أن أسلم نفسي لفرنسا”.

-“لم أفشل إلا بعد أن قررت فرنسا أن ترسل إلى الريف مائتي ألف جندي وكميات كبيرة من الذخائر والأسلحة والمعدات الحربية”.

محمد القجيري (دجنبر 2003)

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: