أخبارأخبار الرئيسيةتاريخ

مــولاي مــوحــنــد الـ “حداثـي أكثر مما ينبغي”

أخدت الحياة تنتظم [ أي بعد وصول الرئيس إلى منفى جزيرة لاريونيون ]. فـإنكب عبد الكريم، كمثقف مرهف على القراءة، والكتابة، وتعلم الفرنسية. وكان يعمل على مائدة مستديرة، في غرفة خالية من الأثاث يوجد بها رف مليء بمختلف أنواع الأجهزة حتى المطبخية منها.

كما كان يعتني بالحديقة، ويمشى في المنتزه مرتديا جلبابه الداكن وواضعا عمامته على رأسه، ومنتعلا “بلغته”، حريصا رغم كآبته البادية على أن يظل لطيفا ومتحضراً. كان يستقبل بعض الصحافيين القلائل ويجيبهم بالعربية، فيتكفل امحمد أو النقيب ساني بترجمة أقواله.

وذهب أبناؤه في البداية إلى المدرسة الإبتدائية، ثم التحقوا بالثانوية الفرنسية لوكنت دوليل بسان-دوني، حيث كان من بين زملائهم في الدراسة ريمون بار و جاك فرجيس. وسهر بمنتهى الدقة على تربيتهم، فكان يعلمهم العربية ويمنعهم من التكلم بالفرنسية في البيت، وكان يُسمح للعائلة بأن تتجول بالسيارة في أرجاء الجزيرة، ولكنها كانت ممنوعة من الاتصال بسكانها المسلمين البالغ عددهم وقتذاك خمسة عشر ألف نسمة، والذين كان معظمهم من أصل هندي أو قُمُري.

وفي الوقت الذي كان حديث الوصول إلى ذلك الصقع النائي نشرت مجلة ”المنار” القاهرية في عددها الصادر في 5 نونبر مقالا مطولاً حول تجربة عبد الكريم، اختارت له كعنوان رئيسي: “جهل الزعماء المسلمين”، وكعنوان فرعي: “الأعمال المنكرة للزوايا والشرفاء سبب هزيمة الزعيم الريفي”.

وانطلق المقال من تصريح للرئيس كان قد قال فيه: “إن التعصب الديني هو سبب هزيمتي”، ومن انتقاداته لبعض الشرفاء وأصحاب الزوايا الذين اعتبرهم “عبدة بشر”: “لقد بذلت ما في وسعي لتخليص وطني الريف من نفوذهم المعيق للحرية والاستقلال”… وأضاف الرئيس : “كنت معجبا بتركيا.. وعارضني المشايخ لأنهم رأوني أرتدي بذلة ضابط… وكل بلد يحافظ فيه هؤلاء الزعماء الدينيون على نفوذ كبير لا يمكنه التقدم إلا بوتيرة بطيئة دون اللجوء إلى القوة والعنف. وعلي أن أوضح بأنّني لم ألقَ في الريف أي تشجيع لتحقيق مشاريعي الإصلاحية، ووحدها بعض الجماعات الصغيرة بكل من فاس والجزائر فهمت مقصدي وساندتني لأنها كانت مطلعة على ما يجري في الخارج… ولا يمكن للبلدان الإسلامية أن تستقل دون أن تتحرر أولاً من التعصُّب، أن تحذو حذو البلدان الأوربية… وباختصار، لقد جئت قبل الأوان”.

وهنا تدخلت المجلة لتعلق على هذه الأقوال، غير أنها لم تمض في اتجاه نص الرئيس، بل ناقضته تماما. فبالنسبة لعلماء القاهرة، الذين كانوا على خلاف صاخب مع السلفية، يعتبر عبد الكريم وطنيا وإصلاحيا مسلما. وارتأت “المنار” إجمالا، أن الرئيس أخفق لأنه “أفرط في تأثره بالغرب بحيث لم يعرف كيف يقود شعبه… فألّب ضده زعماء الزوايا الدينية وانتزع منهم دورهم… وتسرع كثيرا حين أراد استبدال الروابط الجماعية ذات الصبغة الدينية بشعور سياسي وطني، مما جعل الناس لا يتبعونه”. واعتبرت المجلة أن جميع السلفيين انتهازيون، وأن الأتراك أيضا أخفقوا، حيث “أضاعوا إمبراطوريتهم مقابل دولة صغيرة”. وبذلك يكون عبد الكريم قد خسر لأنه كان حداثيا أكثر مما ينبغي.

وهذا هو المرتكز الذي سيستند عليه لاحقا جميع الزعماء الوطنيين المغاربة في حكمهم عليه، كما سنرى بالقاهرة. ومع ذلك، رأى عبد الله العروي في عبد الكريم أحد آخر متزعمي ثورات الفلاحين المتطلعين إلى الخلاص، شكل من الثورة البدائية التي لم يربطها بالمقاومات السياسية المقبلة في المدن. وعليه فإنه كان ماضوياًّ أكثر منه حداثيا. وهو ما يعني في كل الأحوال، أنه ظل غير مفهوم . لكنه في الجزيرة حيث تركناه، لم يكن ليعنيه ذلك علماً أنه حُكِم عليه بالنسيان.

المصدر:

زكية داود، عبد الكريم ملحمة الذهب والدم، ترجمة محمد الشركي – منشورات وزارة الثقافة 2007 ـ
صفحة 331،332،333 الفصل الـ12 (المنفى أو أسطورة الأرياز) => حداثي أكثر مما ينبغي.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: