أخبارأخبار الرئيسيةتاريخمجتمع

زلزال الحسيمة.. بين غضب الطبيعة وتراجيديا التاريخ والسياسة

اهتز بقوة جزء من الريف، وبالتحديد مدينة الحسيمة وضاحيتها، ليلة الثلاثاء صبيحة الأربعاء 24 فبراير 2004، إذ ضربها زلزال عنيف بلغ 6.3 درجة على سلم ريختر مخلفا أزيد من 600 قتيل ونحو 300 جريح حسب الإحصاءات الرسمية للحكومة المغربية، في حين ذهبت إحصاءات المنظمات المدنية المحلية (غير الحكومية) إلى رقم أزيد من 670 قتيل 400 جريح.

ان ما جعل الضرية الزلزالية المذكورة تكتسب خطورتها هو توقيتها، حيث زمجرت الأرض والناس نيام في الساعة الثانية والنصف من صباح ذلك الثلاثاء، الشيء الذي جعل اغلب الضحايا يلقون حتفهم محاصرين تحت الأنقاض أو مختلفين بالغبار الكثيف الذي خلفه انهيار المنازل، واستفحل الأمر أكثر بالنظر إلى تأخر أشغال الإغاثة الفورية حتى ساعة متأخرة من نفس اليوم، حيث ظل الأمر مقتصرا على مجهودات فردية بوسائل بدائية من السكان الريفيين بالمواقع القروية والحضرية المتضررة، وبعض جمعيات المجتمع المدني المحلية التي كثفت جهودها لإنقاذ ما استطاعت إنقاذه.

وقد عقد عملية الإغاثة وجود المواقع الأكثر تضررا في المدار القروي والحضري المتاخم لمدينة الحسيمة، وعلى رأسها جماعة أيت قمرة التي سجل بها 203 قتيلا، تليها مدينة إمزورن التي قتل بها 165 شخصا، ثم الجماعة القروية آيث عبد الله التي سجل بها 90 قتيلا، ثم جماعة امرابط (107قتيلا)، فجماعة ايت يوسف وعلي(64 قتيلا)، ثم جماعة الرواضي (24 قتيلا)، في حين تراوح عدد القتلى في الجماعات القروية بين 58 قتيلا كأعلى رقم: وسجل في قرية آيت داوود ( تابعة لجماعة آيث قمرة) وقتيلين كأدنى رقم سجل في قرية ازمورن.

بمجرد انتشار الخبر عبر وسائل الاعلام المحلية والأجنبية، سيما بعض صور الدمار والجثث المسجاة تحته حـتى انتـشـرت حـالة من الهلع المعمم بين سكان مدينة الحسيمة، الذين اهتزت بهم الارض بدورهـم غـيـر انه لم يسجل بهـا ضـحـايا، ولتنبت مـنـات الخيام في الساحات الفارغة كيفما اتفق ويتكدس فيها أفراد الأسر بالعشرات، ويتم تقدير عدد اللاجئين من مـخـاطر الهزات الارتدادية بنحو 15الف، من أصل أزيد من 70الف نسـمـة هم سكان مدينة الحسيمة.

أما في الجماعات والقرى المتضررة التي قضى بها أريد 650 قتيل تحت الأنقاض فقد كانت مشاهد جثث الأطفال والنساء والرجال أكثر ترويعا وانتشر بين مئات السكان، الذين قضوا الثلاثة أيام التي أعقبت الهزة العنيفة، في الـعـراء تحت رحـمـة سـمـاء ممطرة والطقس الشـديد البرودة في مثل هذه الفترة من السنة.

وبالرغم من أن بعـضـا من وزراء النظام المغربي واحـدى مستشارات العاهل المغربي محمد السادس حلوا في عين المكان في ظرف 24ساعة التي أعقبت الزلزال، لإلتقاط الصور، إلا أن ذلك لم يجعل الأوضاع تتحسن، حيث ظل التحرك الاعتباطي سيد الموقف، بالنظر إلى حجم الكارثة (الزلزال كان الأعنف من نوعه على مدى الاربعين سنة، عقب ذلك الذي دمـر مـدينة أكادير في الجنوب المغربي يوم 29 فبراير سنة 1960، مخلفا زهاء 16 ألف قتيل وعشرات المئات من الجرحى) حيث فضل ممثلوا السلطات المحلية والمركزية توزيع أولى المعونات على لاجئي الخيام بمدينة الحسيمة، بالرغم من أن هذه الأخيرة لم يسجل بـهـا ضـحـايا في حين ظل سكان القرى والجماعات الحضرية المتضررة بغالبون الظروف المأساوية في الأحراش والمرتفعات وهو ما جعل الدور الذي قامت به جمعيات المجتمع المدني المحلية رياديا في إعانة المنكوبين ونقل الجرحى إلى المستشفى الإقليمي بمدينة الحسيمة حيث سجل نقص فظيع في وسائل الاسعاف والأدوية ناهيك عن الطاقم العلمي القسم المستعجلات الذي أخذ على حين عرة في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل.

يقول أحد أبناء منطقة قروية متضررة من جماعة أيت فروين اسمه أولاد محند احمد ” توفي الأبناء الثلاثة لأخي وفقد عمي اطفاله الخمسة، اما هو فقد نجا باعجوية، أخوه وابنا عمه ماتوا جميعا تحت أنقاض منازلهم التي هـدمـهـا الزلزال” مضيفا: “لقد تهدمت 8 منازل بدوارنا عن آخرها، ولم يتبق منهـا باب او مـتـر واحـد من جدار واقفا، إضافة للمنازل الأخرى المتضررة التي لم تعد صالحة للسكن، إن سكان دوارنا يناهزون 300 شخص كلهم مشردون في العراء ثم يستطرد على مستوى أوسع” كل منازل المداشر المجاورة لنا منها : إيكار وانو، اريانن، اسـويـقن، ايكلتـومن، ايشـوركين، امـهـجـار، آيت طاعـة إغميرن، إيشوين… وغيرها لم تعد منازلها صالحة للسكن، ليس هناك مواطن واحد يدخل إلى منزله، إننا نعيش تحت . خـيـام من البـلاسـتـيـكـ ونحن لم نتـوصـل بأي شيء من المساعدات التي وصلت للاقليم بوفرة”.

انها الشهادات المسجلة بعين المكان من طرف المجتمع المدني المحلي خلال الثلاثة أيام التي أعقبت الهرة الزلزالية العنيفة، والتي انضافت إلى عشرات غيرها جعلت الصحافة غير الحكومية، توجـه نقدا لاذعـا للمسؤولين الحكوميين، مـؤاخـذة إياهم على التباطؤ في اتخاذ القرارات المناسبة الوقت المناسب، ولم يسلم أي ورش حكومي معني بالكارثة من سهام نقد صحافيي جزء مهم وواسع الإنتـشـار من الإعلام المكتوب، حيث نعـتت السلطات العمومية المحلية بالعجز عن تدبير وتنظيم توزيع مئات الأطنان من المعونات القادمة من مختلف أنحاء العالم، سيما من التنظيمات المدنية للمهجرين الريفيين المنحدرين من المنطقة، ومن الدول الأجنبية إذ سجلت أقلام الصـحـافـيين الذين واكـبـوا الـحـدث المأسـاوي، بقاء تلك المعـونـات مكدسـة في مطار الشـريف الإدريسي بمدينة الحسيمة، شاهدة على تواطئ النظام المغربي، مثلما وجه النقـد كذلك لتباطؤ عمليات الإغاثة وإسعاف الجرحى والنقص الحاد المسجل في البنية الإستقبالية للمستشفى المحلي (الوحيد بالمدينة) مما استدعى في الساعات الأولى التي أعقبت الزلزال اسـتـقـدام طواقم طبية وتمريضية من مختلف المدن الريفية القريبة والبعيدة عن المنطقة، ولم يفت هذا النقد الإعلامي مسالة معايير البناء الفوضوي بالمنطقة الذي كان سببا أساسيا في ارتفاع عدد الضـحـايا والمصابين، وذلك تأسيسا على المعطيات الجيولوجية التي تؤكد، علمـيـا، أن المنطقة المذكورة تـعـتـبـر بـؤرة دائمـة للاهتزازات الأرضية (آخر زلزال يعود إلى منتصف شهر ماي سنة 1994خلف قـتـيلين وانـهـيـار عـشـرات المنازل بمنطقة الحسيمة) باعتبار أنها تشهد نشاطا جيولوجيا ناتجا عن تجـاذب الطبقة الأرضية القارية الأوروأسيوية والإفريقية (عرفت هذه الرقعة زلازل كارثية في فترات متقاربة آخرها الزلزالان المدمران بتركيا وايران خلال السنوات القليلة الماضية) ومن ثم ألحت الإنتقادات المذكورة، بصدد زلزال منطقة الحسيمة الريفية، على عدم تفعيل قانون صادق عليه البرلمان المغربي حـول إجـبـارية إخـضـاع البنايات بالمنطقـة للمـعـايـيـر المضادة للزلازل، وأكدت التـلاعـبـات وعمليات الإرتشاء التي تمارسها السلطات المحلية بالمنطقة.

ولم يسلم الإعلام العمومي السمعي البصري بدوره من هذه الانتقادات، حيث عيب على القناتين الرسـمـيـتين اللتين يتوفر عليهما المغرب لحد ذلك الوقت، كونهما لم تبثا صور وأخـبـار الكارثة سـوى بعد ظهيرة يوم الأربعاء الموالي للحدث المأساوي، وفضلتا الاستمرار في تقديم برامجهما العادية، وقوامها مسلسلات مصرية ومكسيكية وأشرطة وثائقية قديمة!

غير أن الانتقادات المذكورة بلغت أوجها حينما ركن المسؤولون المحليون والمركزيون إلى سكون وتردد شبه تامین في انتظار زيارة العاهل المغربي مـحـمـد السـادس إلى المنطقة، ليصور كالبطل المنقذ، لتظل تقریبا، جمعيات المجتمع المدني المحلية في عملها الدؤوب لتقديم الإسعافات وإغاثة المنكوبين وتوزيع المساعدات.

وسجل أحد النشطاء الريفيين في اليوم التاسع الذي أعقب الزلزال هذه الشهادة العيانية بخصوص سير أمور إسعاف الجرحى والمعطوبين بمستشفى محمد الخامس، حيث قال: ” إن الأمور تسير بشكل مستحسن في المستشفى، غير أنه مازال مطلوبا مضاعفة الجهود للتغلب على بعض المشاكل التي ستكون مطروحـة بحـدة خلال الأيام القليلة المقبلة، مثل وضـعـيـة الجـرحي بعـد خـروجـهـم مـن المسـتـشـفى، خـاصـة أن بعض الضـحـايا أصـبـحـوا بلا منازل وأوضـاعـهم الصحية لا تسمح لهم بالإقامة في خيام غير مجهزة، ثم إننا سجلنا عودة بعض الأطباء المتطوعين إلى المدن التي جاؤوا منها، وبالرغم من أن الأطباء الموجودين يبذلون جهودا مضنية، إلا أن هناك نقصا في الرعاية الطبية لبعض الحالات المرضية في المخـيـمـات والمنازل، وعـدم انتظام الوجـبـات، ناهيك عن مـضـاعـفـات البرد القارس، واخـتـلاط الرضع والأطفـال والشباب والشيوخ في خيمة واحدة في كثير من الحالات…”.

إنه غيض من فيض سجلته هذه الشهادة، وهو ما جعل صداها يصل عبر وسائل الإعلام الأجنبية إلى مختلف أنحاء العالم، وبالأخص عبر بث الصور المأساوية للدمار، إذ تقاطرت أطنان من المساعدات (خيام، أغطية، أدوية، مواد غذائية، البسـة..) من شتى أنحاء العالم، كما سبقت الإشارة، غير أن السياسات التي نهجها النظام المغربي في عماية التسلم والتوزيع حالت في بعض الأحيان دون وصولها إلى المتضررين في الوقت المناسب، وهو ما أجبر السلطات المحلية والمركزية على إشراك النشطاء الريفيين في عمليات تسلم الإعانات وحصر أعداد المتضررين وتوزيعها عليهم، وهو ما سهل عدة عراقيل وخفف من حالات فوضى كادت تتـحـول إلى احـتـجـاجـات ومظاهرات عـارمـة، بل والأسـوا: مـواجـهـات بين قوات الأمن والمدنيين المحـتـجين. وهي الأجـواء التي أعادت إلى الأذهان تمردا مـشـهـودا بالمنطقة خلال سنتي 1959-1958عقب تسليم الريف الى المغرب من طرف اسبانيا ( 1956)، حيث تظافرت حينها عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية لحدوث تمرد بقيادة أحد أبناء المنطقة هو محمد سلام أمزيان، مما أسفر عن مواجهات دامية مع السلطات العسكرية المغربية خلفت مئات القتلى والجرحى، إذ أطلق على المتمردين المعتصمين بالجـبـال عيارات نارية وقنابل.

ومنذ ذلك الحين ظلت المنطقة موشومة بصفة التمرد في عرف السلطات المركزية بالرباط العاصمة، وظلت في عزلة شبه تامة، بل أصبحت مـعـقـلا لـتـجـارة التهريب والمخدرات (الزراعة الوحيدة التي تدر عائدات مهمة) ولم يتم بذل مـجـهـودات بنيوية على المستويات الإقـتـصـادية والزراعـيـة طيلة مـا يقـرب من نصف قـرن لفض العـزلة المذكورة، وبالتالي استمرار ذلك الحذر والحيطة المتبادلين بين الحكم المركزي في الرباط وسكان المنطقة.

إن جزءا مهما من التهميش الذي عرفته المنطقة يعود إلى قرابة قرن، حين خضعت للاستعمار الإسباني بموجب اتفاق إنجليزي- فرنسي.

وبدخول الإسـتـعـمـار الإسباني الى الريف، بدأت واحـدة من المراحل العصيبة في تاريخ البلاد، غير أن المنطقة أفرزت إبان هذه الحقبة الإستعمارية واحدة من أبرز حركات التحرر في العالم، إذ تشكلت في سنوات العشـرينيـات دولة ريفية بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي المعروف محليا بلقب الأمير مولاي موحند، حيث انتشرت حينهـا ثـقـافـة مناهضـة للإسـتـعـمـار بما توفـر للمحاربين الريفيين من وسائل دفاع بسيطة: بنادق، أسلحة بيضاء… ووظف الـقـائـد مـحـمـد بن عبد الكريم الخطابي بسـالة أولائك المحاربين الأشـداء لمنازلة آلاف الجـيـوش الإسبانية المدججة بأحدث الأسلحة حينئذ، وظلت واحدة من المعارك التي دارت في جبال وأحراش الريف، خالدة ضمن تراث المقاومة محليا وعالميا أطلق عليها اسم معركة انوال (1921) التي تكبد فيها الجيش الإسباني خسائر فادحة، وأسر المقاومون الريفيون عشرات المئات من الجنود الإسبان، متسببة في أزمة سياسية خطيـرة عـصـفت بالحكومة الإسبانية أنئذ.

دفعت هذه الإنتصارات التي أبهرت العالم بأسره، القائد الخطابي إلى تنظيم شؤون الحياة المحلية بالريف سـيـاسـيـا واقـتـصـاديا واجـتـمـاعـيـا، جـاعـلا من الخصوصيات المحلية أساسا لهذا التنظيم (دولة جمهورية قبائل الريف)، وهو ما أثار مخاوف الكثيرين سـواء على مـسـتـوى السلطة المركزية بالمغرب، التي كانت ماتزال محتفظة بموقعها الرمزي في الفترة الإستعمارية، أو من طرف الإستعمارين الإسباني والفرنسي، سيما وأن الإنتصارات المذكورة كانت تجـد صـداهـا القـوي بباقي مناطق شمال افريقيا، وعبر أنحاء العالم، الشيء الذي كان بصـدد منحهـا مـشـروعـيـة سياسية متعاظمة، عندئذ تظافـرت جـهـود القوتين العسكريتين، الفرنسية والإسبانية، بكل ما توفرتا عليه حينئذ من عشرات الآلاف من الجيوش ومختلف الأسلحة المتطورة للقضاء على الدولة الفتية، وهو ما تحقق للجيشين المتحالفين في نهاية المطاف، وليتم أسر القائد محمد عبد الكريم الخطابي ونفيه إلى جزيرة لارينيون، وهي المرحلة (النفي) التي استمرت طويلا حتى وفاة هذا القائد العسكري والسياسي الفـذ (الهـم فـيـمـا بعـد العديد من حركات التحرر في العالم كالثورة الكوبية والتمرد الفيتنامي ضد الإستعمار الأمريكي ..) بالعاصمة المصرية القاهرة سنة 1963التي دفن بها بعيدا عن موطنه.

شيء من الجغرافيا الطبيعية والإجتماعية

يعتبر الريف بمثابة قلعة جغرافية محاصرة بجبال وأودية وعرة، كأنها شاهدة على حدة البتر القاري، كما تقول واحدة من الفرضيات الجيولوجية، القائلة بأن الأصل كان هو كتلة قارية واحدة كبيرة منذ ملايين السنين في هذه المنطقة من العـالم، قبل أن تنفصل إلى قارتين (الأوربية والإفريقية) وإن ما يساعد مثل هذا الطرح، ظاهريا على الأقل، هو القرب الحثيث بين الضفتين الشمالية والجنوبية في هذه المنطقة، حيث نجـد المسافة بينهما لا تتجاوز في بعض المواقع أربعة عشر كيلوميترا.

إن الوعورة الجغرافية للمنطقة وعزلتها الطبيعية جعلتها تفتقر إلى اكتفاء ذاتي من المنتوج الفلاحي (المصدر الرسـمي الأساسي للدخل) الذي مازال يمارس بطرق بدائية: المحراث الخشبي والدواب والعمل اليدوي المضني غير أن “ازدهار” زراعة الحشيش بفضل توفر التربة والمناخ المناسبين، والطلب العالمي المتزايد، جعل المنطقة تصبح واحدة من أهم مناطق زرع القنب الهندي، وبالتالي ظهور مافيا (العاهل المغربي) تسويق لها شبكات توزيع معقدة في الداخل والخارج، مستفيدة من سلطتها غلى موظفي الأمن والجمارك، وهو مـا حـتم على المنطقة أن تظل في عزلتها الطبيعية كغطاء لعورة هذه التجارة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: