أخبارأخبار الرئيسيةثقافة وفنون

“ثغرك كأس أشرب منه ونهداك بارزان”… شعر إيروسي “سرّي” في المجتمع الريفي

عُرِفَ المجتمع الأمازيغي في الريف (أقصى الشمال الغربي لإفريقيا)، بأنه مجتمع قبليّ محافظ، لكن بالموازاة مع الحياة العامة هناك الشعر الذي تتداوله الأجيال، كونه شعراً شفهياً، ينتقل عبر التداول والذاكرة، وقد ارتبط استخدامه بالأفراح والأنشطة الفلاحية، كجنس أدبي يمكّن الشاعر وحده من التعبير عن الهموم والأفراح والانتصارات، ويكشف جزءاً من طبيعة الفرد والمجتمع الذي يطمح إلى تحرير الذات والانتصار لبهاء الجسد.

تتنوع المواضيع التي يعالجها الشعر الأمازيغي، مقرونةً بفضاءات استخدامه وسياقاتٍ معينة، ولعل أبرز هذه المواضيع، التي يغيب نظمها في المجالس الجماعية والمختلطة لكنه يحضر بقوة في المجالس الخاصة ويرسم علاقات الحب “الخفيّة”، هو الشعر الإيروسيّ، حيث حضور الشهوة والرغبة، ومساءلة الجسد والإيروس طاغية، وحيث يطوّع الشاعر/ ة المحرَّم والتابو في قالب تغلب عليه جماليّة المفردات وأبعادها الشبقيّة مما يجعل الألسن تحفظه، وتنقله وتتداوله سرّاً.

قصائد متمرّدة

لم يكن هذا النوع من القصائد الإيروسيّة، حكراً على مجالس الرجال فقط، بل أبدعت فيه النساء أيضاً، إذ يشكل نوعاً من “الكاتارسيس” (الكلمة الإغريقية التي تعني التطهير)، يباح فيه عن الشهوة، ويُستدعى فيه العاشق الغائب المجهول، كما تُستحضر فيه ملامح أجساد مكتنزة عارية، كنوع من التحرر من سلطة المجتمع “المحافظ” في المنطقة، التي تحظر استخدام هذه القصائد، في الفضاءات العامّة على الأقل، وتعكس جزءاً من قدرة الأفراد على اجتراح طرق عيش سرّية بعيدة عن قمع المجتمع.

نماذج كثيرة، هي القصائد التي تغنت بجسد العاشق الغائب أو بحبيبة لا يستطيع الوَلْهَانُ الوصول إليها، وهذه بعض الأبيات الشعرية التي تجسد هذا الجنس الأدبي.

إذ تخبر إحداهن صديقتها، وهي تحكي لها عن علاقتها الحميمية مع حبيبها:

“تعالي أخبرك ما قاله لي الحبيب

قال لأكتبنَّ كلمات على بظرك”.

ويصف عاشق آخر حبيبته في كلمات إيروسيّة ظاهرة قائلاً:

“قولي ذلك أيتها الحبيبة، قوليها فقط

ثغرك كأس أشرب منه ونهداك بارزان”.

شفاهيّة الحريّة

بخصوص الانتشار الواسع للشعر الإيروسيّ بالرغم من سرّيته، يوضح عبد الواحد حنو، الأستاذ والباحث في الثقافة واللغة الأمازيغية، أن من مميزات الشعر الأمازيغي أنه شفهي، ممّا يجعله قابلاً لاحتضان مواضيع ذات صلة بحميميّة الجسد، أكثر من الشعر المكتوب. وإن أولى هذه المميزات هي طابعها الجمعي في التأليف، أي أن مؤلفها مجهول، وينسب هذا الشعر إلى الجماعة. إذ يُردَد في الجلسات الخاصة للترويح عن النفس والتسلية.

ويتابع المتحدث نفسه: “هذه الميزة غير متوفرة في الشعر المكتوب الذي ينسب إلى الشخص، ويكون كاتب القصيدة معروفاً، وهو ما يجعله يتحاشى الخوض في هذه المواضيع، وإن تناولها فذلك يكون بشكل غير مباشر، وباستعمال لغة مجازية تغطي ثقل التعابير المستعملة وتنقص من عبئها وحدتها”.

“وينشَد بطرق تلقائية وعفويّة، عكس الشعر المكتوب الذي يبقى حبيس أقلام معدودة، ويكتبه في الغالب أناس تلقّوا قسطاً من التعليم في المدارس والثانويات والجامعات، واهتمامهم يبقى حبيس تيمات معينة تتكرر من شاعر إلى آخر”، يضيف عبد الواحد.

يتفق الباحثون في هذا المجال، على أن الطابع الجمعي لهذا النوع الشعري، يعطيه قوّةً وحيويةً، إذ يتخلّص هذا الصوت الإبداعي المجهول من “سلطة الإرغام” لدى المجتمع كما يصفها عبد الواحد حنو، كما أن المجتمع الذي ينتج هذا الشعر الشفهي الإيروسيّ، هو المجتمع نفسه الذي ينبذه عندما يكون مكتوباً من طرف شاعر معيّن.

حين يهرب الشاعر من الواقع

يظلّ الانتشار الواسع للشعر الإيروسيّ الريفي الأمازيغي حبيس “السرّ”، إذ يغلب عليه طابع السرية والتكتم، ولا يستطيع شاعر اليوم نظم هذا النوع من القصائد وإلقاءها أمام الجمهور، ليُحصر استعمالها لدى فئات معينة فقط وفي مجالس استثنائية.

هذا ما يؤكده الشاعر الريفي، عبد الرحيم دادي التسولي، فالهروب من التيمات الإيروتيكية، هو هروب من الواقع ومن ذات الشاعر.

يعزى الهروب حسب المتحدث ذاته، إلى البيئة المحافظة للشاعر، ولا يمكن لوم الشاعر على ذلك بحكم أن المجتمع والمتلقي العادي قد لا يتفهمان ذلك، والغوص في مواضيع إيروتيكية قد يجعل الشاعر يقع في مأزق البيئة المحافظة.

“قولي ذلك أيتها الحبيبة، قوليها فقط… ثغرك كأس أشرب منه ونهداك بارزان”. قصائد إيروسية في المجتمع الريفي المحافظ

يربط التسولي، النظرة الدونية التي يُنظَر بها إلى الشاعر الأمازيغي اليوم، بالثقافة المحدودة للمجتمع وبيئته، وبعلاقة القارئ بالشاعر الأمازيغي والتي قد تكون غائبةً.

ويضيف المتحدث، أنه من الممكن للشاعر الأمازيغي، أن ينتزع حريته في الإبداع والتعبير عن دواخله بكل جرأة في عالم الكتابة وليس في مواجهة مباشرة أمام المتلقي والجمهور.

محمد شاشا… متمرد في المهجر

قلة هم شعراء المنطقة الذين تمرّدوا على سلطة المجتمع، التي تُحظر فيها كتابة هذا النوع من القصائد الإيروتيكية، وإلقاؤها أمام الجميع. محمد شاشا (1955-2016)، كان أحدهم، عبر الدواوين الشعرية التي نشرها في المهجر باللغتين الريفية والهولندية، والقصائد التي ألقاها في الملتقيات الأدبية.

يؤكد الباحث في اللغة والأدب الريفي الأمازيغي، شاهد أنديش، أن الشاعر الأمازيغي محمد شاشا، هو الوحيد الذي حلّق خارج سرب الشعراء الذي يدونون قصائدهم، مستخدماً حقلاً معجمياً إيروتيكياً في ديوانه الذي نُشر في هولندا والذي عنونه بـ”قليل من الحمق لم يصل بعد”، في تسعينيات القرن الماضي.

و”شاشا كان واعياً بكون هذا النوع من القصائد يساهم في تحرر المجتمع من براثن التقاليد البائدة والتدين الزائف، وهو معجم لم يستعمله في قصائده، بل تعدى ذلك نحو روايته ‘اكسر التابو لتشرق الشمس’”، يوضح الباحث ذاته.

“تعالي أخبرك ما قاله لي الحبيب…. قال لأكتبنَّ كلمات على بظرك”. في المجالس الخاصة في الريف، تتحرر الألسن، وتنشد قصائد إيروسية لشعراء مجهولين

يسجل الباحث أنديش، أن الجالية الريفية، كانت غالباً ما تقاطع شاشا، في أثناء إلقائه قصائده الإيروتيكية، التي كان ينظمها وفق رؤيته الخاصة وليس وفق رؤية المجتمع أو الدين.

غير أن شاشا على ما يبدو ليس الوحيد الذي وقف في وجه سلطة المجتمع وحاول أن يتحرر منها، بل أصوات مجهولة عاشت في الخفاء لطالما حاولت ذلك أيضاً، ومن بين تلك الأصوات هذه الشاعرة المجهولة، وهي تنشد هذا البيت المعروف مدافعةً عن حريتها بجسدها قائلةً:

“ها هو ذا جسدي، افعل به ما شئت

أما أنت أيها الحسود فلا تساوي لديّ شيئاً”.  

بقلم الباحثة الريفية كريمة وعلي، عن موقع رصيف22

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: