أخبارأخبار الرئيسيةثقافة وفنونسياسة

المكتبة الريفية تتعزز بكتاب حول الزاوية الوحيدة التي ساندت وشاركت في تأسيس الجمهورية الريفية

صدر بالفرنسية مؤخرا كتاب مهم جدا لينضاف إلى رفوف المكتبة الريفية من جزأين بعنوان ” تاريخ الزاوية الخمليشية و دورها في حرب الريف التحريرية 1921-1926″ من تأليف حفيد الخمالشة المجتهد “نور الدين أخمليش”. وهو كتاب حول تاريخ الزاوية الوحيدة التي ساندت قيادات الجمهورية الريفية (منذ ما قبل التأسيس 1921 وحتى ما بعد الاستسلام 1926) بشكل علني، كما أقر به الرئيس مولاي موحند وسماهم “الخمالشة”، والذين انتشر صيتهم انطلاقا من بلاد صنهاجة اسراير بالريف الأوسط.

لربما سيجعل عنوان يتضمن كلمة “زاوية” بعض القراء والمتابعات ينتقلون إلى موضوع آخر، بل وهنالك من شباب وشابات الريف من سيتفاجأ من تشجيعنا إياهم/هن على قراءة كتاب حول أشخاص يتسمون “شرفاء” أو “زاوية”، لأن ما يعايشونه اليوم وما يلاحظونه من تصرفات وسلوكيات يبرر عدم اهتمامهم بمثل هكذا مواضيع. لكننا ندعوكم/كن لبرهة إلى إعادة النظر في الأمر، ومقاربته بشكل مختلف:

إذ وجب التنبيه هنا إلى أن مصطلح “زاوية” بمفهومها الأنثروبولوجي عبر كامل تراب الريف، وإلى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، لا يجب أن يفهم في نفس سياق ذكر الزوايا الصوفية أو الطرقية المنتشرة بالمغرب والمشرق، ولا أن يتم مقارنته بما يسمى حاليا “زاوية” أو بما صار عليه حال الزوايا الريفية بعد سيطرة الحكم المخزني للملكية العلوية.

حيث كانت هذه الزوايا الريفية عبارة عن زوايا قبلية من حيث الرقعة الجغرافية، ولكنها محايدة قبليا من الناحية الاجتماعية، ثم مساهمة في إحقاق السلم والتحالفات القبلية كدور سياسي يجنب القبائل مساوئ اللجوء إلى تحكيم المخزن ومن ثم تدخله كما كان معروفا عن سلاطين العلويين وممارساتهم مع القبائل الأخرى. فبرز الخمالشة والغلبزويريون والمسناوين والحسونيون والبقاليون… إلى جانب مصالح القبائل الريفية، بينما كانت امتدادات النموذج الآخر من الزوايا إلى الريف امتدادا أيضا لمطامع أي سلطة تحاول التدخل في الريف والسيطرة عليه كمثال الزاوية الدرقاوية أو التيجانية أو العلوية…

ومنه أهمية الكتاب؛ لما يتضمنه من وثائق تبرز الدور السياسي المتميز للزاوية الخمليشية في الريف الأوسط كعنصر أساسي من عناصر التوازن والاستقرار السياسيين داخل مجتمع قبلي “أمازيغي” مستقل عن سلطة المخزن وعن أي سلطة أجنبية، خصوصا في أشد فترات ضعف سلطة القبائل حين تنهار الأعراف والأوفاق القبلية ويغيب تطبيق العدالة بين الأفراد والجماعات بشكل تام.

هذا ما يمكن التأكد منه على ضوء التجربة التاريخية للزاوية الخمليشية التي شكلت منذ تأسيسها على يد الشيخ “يحيى أخمليش” أواخر القرن 17م وإلى حدود الربع الأول من القرن 20م أكبر قوة روحية وسياسية على مستوى قبائل الريف الأوسط؛ ولا أدل على ذلك من كونها كانت تؤطر إحدى أوسع وأقوى التكتلات القبلية بالمنطقة، والأمر يتعلق بكونفدرالية قبائل “صنهاجة اسراير” التي كانت تشغل بقبائلها معظم مجال الريف الأوسط.

ففي هذا الإطار، يوضح الكتاب كيف كان شيوخ الزاوية الخمليشية الأوائل يتجاوزون وضعهم الروحي المتميز ليتحولوا إلى قادة سياسيين وعسكريين لهذه الكونفدرالية كلما داهم الريف خطر غزو استعماري محدق، ولعل هذا ما أعطى للزاوية خصوصيتها وتميزها من حيث نشاطاتها السياسية عن باقي الزوايا الريفية التي اكتفت بالحياد والإصلاح بين اللفوف والقبائل المتصارعة.

لذلك يقوم الكاتب بكشف وثائق ومعطيات أخرى من الأرشيف الخاص بالزاوية تبين هذا الدور السياسي والجهادي للزاوية، والذي تبلور منذ “التجربة المرابطية” للخمالشة (ق16م)، وتعزز أكثر مع تأسيس الزاوية، إلى المشاركة في حربي إيسلي 1844 و تطوان 1860 فحصار قلعية 1893 ثم إنزال عين مديونة 1907… وصولا إلى توثيق دورها الفعال في دعم ومساندة حركة “الشريف محمد أمزيان” التحررية ضد “بوحمارة” والجيوش الإسبانية وكذا حركة “عبد المالك” حفيد “الأمير عبد القادر الجزائري”، ثم الانخراط التام في ثورة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي والمساهمة في تأسيس الجمهورية الريفية وتحرر كامل تراب الريف واستقلاله.

في هذا العمل التأريخي الهام، يمكننا اكتشاف العديد من الشخصيات والسياقات والأحداث والوقائع الغير معروفة من لدن عموم الباحثين/ات، والتي ستساهم بلا شك في توضيح الكثير من مشاهد الملحمة الريفية التاريخية أوائل القرن العشرين، كما ستكشف عن الدور الحقيقي للزاوية الريفية ضمن فسيفساء المجتمع القبلي الشاسع قبل أن يتحول معظمها تدريجيا بعد الاستعمار الامبريالي إلى جهاز (شبه ممخزن) وتركيبة مفارقة للتركيبة القبلية.

نستطيع التأريخ بالفعل لبدايات تفكك الزاوية الخمليشية وبالتالي انهيارها كتنظيم، من خلال مسلسل “المخزنة” الطويل المدى الذي تعرضت له هذه الزاوية حسب ما أورده بشكل مفصل الباحث الصنهاجي “محمد جحاح” في أطروحته “الزوايا، المجتمع والسلطة بالمغرب 2001″؛ فقد انتهى تحليله إلى أن استمرار هذه الزاوية وقوتها ظلا رهينين بمدى قدرتها على المناورة واحترام التوازنات الضرورية بين القبائل وعدم انحيازها لأي سلطة خارجية، لأن هذا الانحياز يعني ضمنيا القضاء على  بنية التنظيم وضربه في أساسه.

لكن هذا ما سيحدث للأسف مع هذه الزاوية بعد قضاء قوى الاستعمار الامبريالي على أسمى مشروع ساهم فيه الخمالشة وهو تأسيس الجمهورية الريفية، وقد حدث باستعمال السلطان وخليفته ومن خلال مخططات “لينة” بطيئة – وغير مكشوفة دائما- لكنها ستثبت فعاليتها على المدى البعيد.

انطوى مسلسل “المخزنة” على عدة خطط (كما ينجلي من بين سطور العديد من الرسائل التي يوردها المؤلف) كانت تهدف -في العمق- إلى عزل الزاوية تدريجيا عن كتلتها القبلية، بضرب الأسس الروحية والرمزية لسلطتها وتجذرها من داخل مجالها القبلي، لصالح اهتمامها بالأساس المادي والرخاء الاقتصادي لأفراد الأسر المننسبين إلى الخمالشة أو “الشرفاء”.

لقد تركزت هذه الاستراتيجية أساسا على مسألة الضرائب والجبايات (تفويض سلطة الجباية لشيخ الزاوية) و على الامتيازات المخزنية الأخرى التي كانت تضمنها “ظهائر التوقير والاحترام” الموجهة من طرف سلاطين الحماية إلى شيوخ الزاوية الأواخر.

كرس هذا الوضع بعدئذ تبعية “الزاوية” أكثر فأكثر للمخزن، فتمكن هذا الأخير من توظيف سلطاتها الرمزية وتاريخها المجيد لما فيه صالح سياسته العامة تجاه الريف وقبائله: بحيث أصبح “الشريف” هنا يتصرف بمنطق “القائد المخزني” و “الجابي” أكثر منه بمنطق “شيخ الزاوية” كما حددنا معالمه من قبل، تماما كما وقع مع مؤسسات القبيلة وتوحيدها في شخص “شيخ القبيلة” الذي صار ممثل السلطات الاستعمارية على القبيلة لا واحدا من ممثلي فرقات القبيلة “إيمغارن”.

على ضوء هذه المعيطات إذن، ينبغي أن نقرأ مسار تفكك وانحلال “الزاوية الخمليشية” كتنظيم قائم بذاته، حتى نتجاوز أي نفور قد يعبر عنه حاليا أبناء وشابات المنطقة تجاه أي موضوع له علاقة بالزاوية أو الخمالشة؛ لأن التاريخ الذي يعرفه جيل اليوم يجعل العلاقة ملتبسة جدا خصوصا بعد استلام السلطة من طرف العلويين وبروز ظاهرتين كان لهما تأثير سلبي على قبائل صنهاجة وعلى مجمل الريف:
تعالي بعض “الشرفاء” عن القبائل الأم -بعد تراكم الربح المادي- ومساهمتهم في تعريب المداشر كملحقين عن سياسات المخزن (حتى صارت أمازيغية صنهاجة التي تعد من أقدم وأثرى أمازيغيات شمال إفريقيا مهددة اليوم بالانقراض حسب التقارير الدولية) ، وظاهرة اكتشاف كيفية استخراج الحشيش من الكيف/القنب الهندي المتجذر في المنطقة ليتحول الكيف إلى نقمة بالنسبة للمنطقة (منتوج مطلوب دوليا لكنهم يدرجونه ضمن المخدرات المعاقب عليها قانونيا/يسمح المخزن بزراعته لكن يطارد المزارعين كمجرمين).

ومن اقتران ظاهرة “الشرفاء الأعراب” بظاهرة “الكيف المسموح/الممنوع”، تولد سلاح فتاك يستعمله الملوك العلويون للسيطرة -منذ سبعينات القرن الماضي- على مجمل قبائل المنطقة بشكل تام؛ منطقة تعرف أكبر نسب لسكان الريف مقارنة مع “المدن والقرى الحضرية” لكن أغلب الأهالي يعيشون في “حالة سراح مشروط” بسبب الكيف، كما أن أغلب سماسرة الانتخابات والاستفتاءات لصالح العلويين في المنطقة ينتمون لما يسمى “الشرفاء” ويستعملون ورقة “الوساطة بين المخزن والأهالي” للعفو عن مزارعي الكيف أو السماح بزراعته أو كما يقع مؤخرا مع ملف “تقنين الكيف” لصالح المخزن العلوي لا لصالح الريف.

قراءة ممتعة للكتاب..
ولن ننتصر ما لم نفهم كيف كان أبطالنا وكيف استبدلوا بمن صاروا أسلحة أعدائنا من بني جلدتنا.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: