أخبارأخبار الرئيسيةتاريخ

مشاركة أبناء الريف في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 _1939) من خلال الشعر الأمازيغي بالريف

تمهيد

إن الخوض في موضوع وثائقية الشعر ربما أصبح من باب التكرار غير المجدي ، إذ عالجته مجموعة من الدراسات والأبحاث ، تلك التي أكدت فعالية المادة الشعرية في استخراج كثير من الحقائق التاريخية التي قد تكون أغفلتها مجموعة من الكتابات التاريخية عن قصد أو عن غير قصد .

لكن مع ذلك فإنني أطرح مجموعة من التساؤلات في مدخل هذا البحث ، وهي كالآتي : ألا يمكن أن نستغل الشعر الأمازيغي في استخراج كثير من الحقائق التاريخية شأن الشعر في مختلف اللغات الأخرى ؟ ، ثم ما هي حدود وثائقيته بعد المقارنة والموازنة بينه وبين الحقائق التاريخية ؟

إن الجواب عن هذه التساؤلات نتركها لما سيتضمن هذا البحث .

أولا : الحرب الأهلية الإسبانية

من المعروف أن هذه الحرب كانت عبارة عن تمرد عسكري أعلنه مجموعة من الضباط الإسبانيين بقيادة الجنرال فرانكو ضد نظام الجمهورية الاشتراكية الإسبانية . وقد انطلق هذا التمرد العسكري من الريف الذي كان خاضعا للإحتلال الإسباني، وذلك ابتداء من يوم 17 يوليوز 1936 م .

وكانت القوات العسكرية النظامية من الإسبان والريفيين، ومن جنوب المغرب ( قبائل آيت باعمران)، والصحراء الغربية التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني، هي الدعامة العسكرية الأساسية لحركة الديكتاتور الجنرال فرانكو فضلا عن مساعدة الأنظمة الديكتاتورية التي كانت قائمة بأوروبا، من أمثال النظام النازي الهتليري والنظام الفاشستي الموسوليني . فالتجأت حركة الفرنكوية المتمردة إلى تجنيد الريفيين بمختلف الوسائل التآمرية والإرهابية بمساعدة قواد القبائل وبعض كبار الشخصيات السياسية والدينية ، بالريف خاصة ، أولئك الذين أبدوا موقفا مؤيدا لحركة فرانكو وذللوا له كل العقبات بفتح باب التجنيد والدعاية المشجعة للانخراط في صفوف الحركة المتمردة على النظام الجمهوري .

ويكفي أن نعلم من هذه الأرقام مدى اعتماد النظام الفرنكوي على أبناء الريف واستخدامهم ، بمساعدة أذيال نظامه ، في حرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل _ كما يقال .

ولقد شرع في تهيئ الأهالي النظاميين في الجيش الإسباني ( Regulares ) والمحلة الخليفية ( أي الجيش الذي كان تابعا لامرة خليفة السلطان بالريف) وتجنيد الريفيين الذين لم تكن لهم خبرة سابقة بالخدمة العسكرية ابتداء من اليوم الثاني لظهور حركة التمرد ضد النظام الجمهوري ( أي ابتداء من 18 يوليوز 1936 م ) . وكانت حصيلة مشاركة الريفيين ، على الشكل التالي :

المدة الزمنية قوات الأهالي النظامية Regulares المحلة الخليفية
Mehalla المجندون الجدد المجموع

من:18/7/1936 إلى 31 /7/1936

من 1/8/1936 إلى 31 /8/1936

من 1/9/1936 إلى31/12/1936

من1/1/1937 إلى31/12/1937

من1/1/1938 إلى 31/12/1938

من 1/1/1939 إلى :31/3/1939

المجموع 5.000

8.000

19.000

28.500

32.000

33.000

———-125.500 3.000

5.000

10.500

14.000

19.000

19.500


71.000 1.172.

8.000

18.988

21.500

17.500

4.500


71.600 9.172

21.000

48.488

64.000

68.500

57.000


268.162
نسبة المشاركة 46,61 % 26,47 % 26,70 % —

أما ما تمخضت عنها هذه الحرب فكان على النحو الآتي :

الموتى من الريفيين على أرض المعركة :165.000
المفقودون ………………………….. 1.700
الموتى نتيجة الجروح………………. . 5.300
الجرحى المعطوبون ……………… … 4.500
المصابون بمختلف الجروح ……… …. 39.125
المسرحون بعد انتهاء الحرب ……… .. 26.500
الباقون في صفوف الجيش بعد الحرب . 26.000

المجموع ………………………… 268.152

هذه هي حصيلة مشاركة أبناء الريف في الحرب الأهلية الإسبانية ونتائج هذه المشاركة من الموتى والمعطوبين والمفقودين والمجروحين ، حسب المصادر التي أشرنا إليها.

ثانيا : الدوافع التي كانت وراء هذه المشاركة المكثفة

إن تحديد دوافع مشاركة أبناء الريف في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الحركة الفرنكوية ليس من الأمور السهلة ، لأن هناك عدة آراء في الموضوع تختلف باختلاف موقع صاحب الرأي ووضعيته الاجتماعية والسياسية والمصلحية. لهذا سنحاول عرض بعضها قبل أن نصغي إلى وجهة نظر الشعر بالريف .

_ وجهة نظر بعض القادة من الحركة الوطنية بالريف الغربي الذين عاشوا في هذه المرحلة وواكبوا أحداث هذه الحرب ، وسجلوها بأقلامهم .

من هؤلاء الأستاذ عبد الخالق الطريس ، مدير ” جريدة الحرية ” ، الذي عبر عن ذلك بقوله والحرب كانت مشتعلة آنذاك ، فقال : » لا يمكن التاريخ أن يجعل إقبال الريفيين على المحاربة في صفوف الوطنيين ( يعني بهم العسكريين الإسبان الموالين لحركة فرانكو) من أجل المال ، لأن المال لم يعوز الآخرين ( يعني بذلك الجمهوريين ) بل ربما كان الآخرون أكثر سخاء به من هؤلاء ، ودفع الريفيين إلى الكفاح واعتبار قضية الوطنيين كقضيتهم الخاصة سوء المعاملة التي لقوها من الجمهورية أيام المواجهة الشعبية . ودفع الريفيين للكفاح كون جانب الحمر (Rojos ) مؤيدا من الفرنسيين ، وصفوف محاربيهم مملوءة بأبناء فرنسا . ولا أحلى للريفيين من أن ينتقموا لأنفسهم من عدوهم الألد ولو في صورة المحاربة لحلفائه ، ودفع المغاربة للكفاح الخوف من مس عواطفهم الدينية إذا استفحل أمر الشيوعية … ».

أما الأستاذ المكي الناصري مدير جريدة الوحدة المغربية فيقول هو أيضا : «إن الشعب البسيط المنتشر في المداشر والقرى والقبائل أقبل كثير من أفراده على التطوع في صفوف القوات العاملة لمصلحة الحركة الوطنية الإسبانية ، لم يكن ذلك حبا في كسب المال ، ولا فرارا من البؤس والفاقة ؛ فالقرويون قد تحملوها منذ زمن طويل ، وإنما كان حماسا لقضية اعتبرها الشعب البسيط قضية فيها خير للمغرب وربح للوطنية المغربية » .

ويمكن تلخيص آراء الأستاذين عبد الخالق الطريس والمكي الناصري في النقط الآتية :

_ أن المغاربة انخرطوا في التطوع إلى جانب الحركة الفرنكوية لكون الجمهوريين كانوا شيوعيين ، والشيوعية لا تحترم الشعور الديني للمغاربة .
_ لم يحاربوا إلى جانب القوة الفرنكوية بدافع الفقر أو بغية الحصول على الأموال ، فلو كان هؤلاء المحاربون يسعون إلى ذلك لساعدوا الجمهوريين لكون الجمهوريين كانوا أكثر سخاء من المؤيدين للحركة الفرنكوية .
_ إن محاربة الشيوعية في نظر الأستاذ المكي الناصري فيها خير للريف وربح للوطنية الريفية .
_ محاربة الريفيين للجمهوريين ، في نظر الأستاذ الطريس ، هي انتقام من الفرنسيين المؤيدين للجمهوريين .

وعلى هامش هذين الرأيين نلقي التساؤلات التالية :
هل كان هناك إدراك للحركة الوطنية عند كل الريفيين في هذه الفترة ، منهم المجندون الذين انضموا إلى جانب الحركة الفرنكوية بصفة أخص ؟ ، علما أن أكثر المجندين كانوا أميين ، وأغلبهم ممن تتراوح أعمارهم ما بين 15 سنة وبين 25 سنة ؟ .

هل كان الريفيون، عامة، على وعي بالشيوعية مفهوما وأهدافا ؟ ، وهل كانت عواطف الريفيين الدينية محترمة زمن الملكية الإسبانية قبل أن يطيح بها الجمهوريون حتى نقول إن الريفيين ساندوا فرنكو من منطلق الدفاع عن دينهم ووطنهم لمحاربة الشيوعية خوفا من أن تمس عواطفهم الدينية ؟ ، ألم يكن فرانكو واحدا من الجلادين الذين لطخوا أيديهم بدماء أبناء الريف غداة ثورة الرئيس محمد بن عبد الكريم الخطابي ؟ ، أو ليس هو الذي قال عند انتهاء حرب الريف سنة 1926 : “إننا نترك ميدان القتال وفي قلوبنا الرغبة في فرض عقاب رادع على المجرمين (يعني أبناء الريف ) لم تره الأجيال قط ” ؟.

إلى أي مدى عبرت مثل هذه الآراء عن إرادة سكان الريف الذين انخرطوا في سلك الجندية إلى جانب فرانكو لمحاربة الحكومة الشرعية للجمهوريين ؟ .

ليست الغاية من هذه التساؤلات أن نجيب عنها بقدر ما نثيرها للتأمل والبحث عن الحقيقة التاريخية الضائعة .

إن شهادة كل من الأستاذين لا بد أن نضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي. فهي قيلت والحرب الأهلية قد دقت نواقيس نهايتها ، والأستاذ الطريس صار رئيس حزب الإصلاح الوطني الذي رخص له الجنرال فرانكو تأسيسه في السنة الأولى من الحرب الأهلية (وبالضبط في بحر شهر غشت 1936 م) ، كما سمح له بتأسيس صحيفة ” الحرية ” ، كما أن فرانكو غض الطرف عن ماضيه الماسوني ، في وقت قامت الحركة الفرنكوية بإعدام كافة الماسونيين الإسبان وتصفيتهم بالريف خاصة . كما أن الأستاذ المكي الناصري هو أيضا استفاد بظهور الحركة الفرنكوية ، كونه قدم من منطقة النفوذ الفرنسية وصار مدير جريدة ” الوحدة المغربية ” ومديرا لمؤسسة تعليمية بتطوان تابعة للدولة الاستعمارية، وإقامته بتطوان كانت بمثابة لجوء سياسي بعد ما نفته فرنسا من الرباط … فهذه المعطيات ينبغي أن لا تغيب عن بال قاريء أمثال هذه الشهادات .

ونفس الموقف من الحرب الأهلية ، إن لم نقل فوق ذلك ، نجده عن رجال لهم وزنهم السياسي والعلمي ، وعند قواد وشيوخ منطقة النفوذ الإسبانية . ومن هؤلاء الفقيه “أحمد الرهوني التطواني” الذي ضمن كتابه الرحلة المكية التي كتبها سنة 1937 م حين أرسله نظام فرانكو _ في عز الحرب الأهلية _ إلى الديار المقدسة على رأس وفد الحجاج المغاربة حين خاطب الجنرال فرانكو بمدينة صَلامانْكَا يوم 19 يناير 1937 بقوله : ” يا فخامة الرئيس إن سعادة نائبكم المقيم العام ” خوان بيكبيدر ” قد انتدبني باسمكم لرئاسة الحجاج الذين يحجون في هذا العام تحت إحسانكم كي أبلغ العالم الإسلامي بمقدار محبتكم وتعظيمكم لجميع المسلمين”…
ورد عليه الجنرال فرانكو بقوله : ” أهنئكم بترشيحكم ، بلغوا جميع المسلمين الذين يحضرون في تلك البقاع المباركة احترامي ، وعرِّفوا عني كل مسلم أني صديق المسلمين من صميم قلبي ، وأني سأهيء لهم جامع قرطبة ونواحيها حتى يكون لهم ككعبة يقصدونها من كل فج للعبادة والعلوم …”
فهذا الكلام في أساسه تزكية للديكتاتور وتجنيده الريفيين لخوض حرب لا قبل لهم بها، كما أن الجنرال فرانكو استغل العامل الديني لكسب تأييد فقهاء ورجال الزوايا وقواد القبائل وشيوخها لحمل الأهالي على الانخراط في الجندية بشتى الوسائل المغرية والجبرية . ولعل ما أورد الفقيه الرهوني من كلام فرانكو من ادعاء محبته للإسلام والمسلمين لخير دليل على ذلك. بل أكثر من هذا سيستغل فرصة عودة هؤلاء الحجاج من الديار المقدسة ليعد الريفيين في أشخاصهم بشتى الوعود المبهمة التي بقيت حبرا على ورق .

من ذلك ما خاطب به الوفد نفسه الذي استقبله بمدينة إشبيلية لدى عودة الحجاج من من الديار المقدسة بتاريخ 13 أبريل 1937 ” …أنتم خير من يفهم لماذا نخوض هذه الحرب . وعندما ستزهر شجيرات ورود السلام سنمنحكم أحسن ورودها ” . ونصها الأصلي كالآتي:
“Sois los que mejor comprendeis esta lucha . Y cuando florezcan los rosales de la paz , os entregaremos mejores flores “
بهذه الكلمات التي لا تخلو من مناورة ثعلبانية كان الجنرال ” فرانكو ” يحاول استمالة الأعيان ورجال الدين وكبار أعضاء الحركة الوطنية بالريف قصد مساعدته بدفع أبناء الريف إلى الانخراط في الجندية والمساهمة إلى جانبه في محاربة الجمهوريين ( الحمر Rojos ) . الأمر الذي دفع بكثير من رجال الحركة الوطنية إلى تأويل كلماته بأنها تعني منح الاستقلال للريف بعد انتهاء الحرب ، أو على الأقل أن تحصل المنطقة على نظام تسييرها الإداري الذاتي .

إلا أن فرنكو كان لا يترك فرصة تمر دون أن يظهر حسن نيته إزاء الريف وأبنائه . فها هو يستغل العامل الديني لاستمالة الأعيان إلى جانبه ؛ إذ نجده في السنة الموالية ( 1358 هـ / 1938 م ) يرسل وفدا آخر من الريفيين إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج ، وعين على رأسه الشيخ مربيه ربه مرشدا روحيا ، ومحمد عمر أُشَّن السعيدي قائدا وحاكما في الباخرة. وقد ألقى عليهم كلمة توجيهية كل من المقيم العام ” الجنرال بيكبيدر ” والصدر الأعظم أحمد الغنيمي السليماني. ومن جملة ما فاه به المقيم العام الجنرال بيكبيدر ” قوله : اعلمو أن معز الدولة ” الخنراليسمو فرنكو ” قد هيأ لكم أيها المسلمون هذه الباخرة لحجكم ، فتنبهوا لفعله الجميل لكم وإعانته إياكم على دينكم ، وقصوا ذلك على إخوانكم المسلمين بالحجاز وغيره ، واعلموا أن الرئيس الديني لكل من في الباخرة هو سيادة الشيخ مربيه ربه ، والحاكم فيها هو القائد محمد عمر أشَّن السعيدي ….” .

وكان الجنرال فرانكو يستغل العامل الديني باستمرار لضمان مساعدة أعيان الريف، وإرغام أبناء القرى والمداشر للانخراط في الجندية، وهو ما يدحض أطروحة الذين قالوا بأن الريفيين شاركوا في الحرب الأهلية لما فيها من مصالح دينهم ووطنهم .

وقد صرح كثير من الجنود الذين شاركوا في الحرب الأهلية وذويهم ممن هم على قيد الحياة أن الريفيين لم يكونوا على علم بالشيوعية ولا بالأهداف الحقيقية من وراء هذا الحرب التي توجه إليها أكثر المجندون وهم لا يعلمون ، في أغلب الأحيان ، أي وجهة يقصدونها .

ثالثا : الشعر الأمازيعي والحرب الأهلية

بعد هذه الجولة السريعة في معرفة حجم المجندين في الحرب الأهلية من أبناء الريف، ومواقف بعض الكتاب ورجال الدين من هذه الحرب والدافع التي كانت وراء تجنيد الريفيين في صفوف حركة فرانكو المتمردة على النظام الجمهوري ، ننتقل الآن إلى الشعر الأمازيغي بالريف لمعرفة بعض خبايا هذه الحرب التي حصدت عشرات الألوف ، بل مئات الآلاف ، فضلا عن المعطوبين والجرحى وما خلفت من الأيامى واليتامى في سنوات القحط والجوع .

1 ) _ السرعة في تسجيل المجندين وإرسالهم إلى جبهات القتال عبر الشعر الأمازيغي

عن سرعة التسجيل في الجندية إلى حد أن المجند لم يتفطن متى تم تسجيله ، ولم يدرك متى ودع أمه ، ولا متى غادر دياره وعبر البحر إلى الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط ليجد نفسه في جبهة القتال :

رَبِّ مَرْمِ نُورَا رَبِّ مَرْمِ نَزْوَا
ربِّ مَرْمِ نَنَّـا اللَّيْهَنيكْ أَيَمَّـا

وعلى الرغم من اختصار الحدث في بيت واحد ، إلا أنه يحمل دلالات متعددة لا تختلف كثيرا عما جاء في الجدول الإحصائي للمجندين الذين كانوا يساقون بالمئات والألوف في وقت وجيز ، وبدون سابق تدريب أو تجربة في القتال .

فها هو الشعر يصف هؤلاء بالأطفال ، وهم يتأهبون للتوجه إلى الانخراط في الجندية ويعلمون ، مسبقا ، مصيرهم المحتوم :

أَمُـونَنْدْ إِحَنْجِينْ سَّاسَانْدْ السِّنِيَثْ
نَشِّينْ أَقَانُيُـورْ غَاسَبَّانْيَا أَنَمَّثْ

لعل هذا الإدراك المسبق لحتفهم ليس من قبيل التكهن أو رجما بالغيب ، بل هو من صميم الحقيقة المرئية والمسموعة عن الجنود الذين قتلوا في أيامهم الأولى من التحاقهم بإسبانيا .

ويتكرر المشهد نفسه في رؤية الجندي حين ينظر إلى السفن التي تنتظره بميناء مدينة مليلية الريفية ، كأنما يرى فيها شبح مصيره المحتوم ؛ إذ يرى في سفن الروم الموت المحقق وهو لم يعبر البحر بعد :

أَغَرّبُـوا أُرُومي ذي مْريتْشْ إِتْرَجَيِيِ
للاّ ثَمُّورْثِنُـو عَمَّـاصْ ثْزْرِذَيِـي

وقد يتساءل سامع أو قاريء هذا الشعر ، لماذا يعبر الجندي الريفي إلى إسبانيا للمشاركة في هذه الحرب مادام أنه يعلم علم اليقين بأنه سيموت ؟.

إن الإجابة عن مثل هذا التساؤل قد نعثر عليها في كثير من شواهد هذا الشعر . فلنصغ إلى هذين البيتين اللذين أنشئا على ألسنة شباب الريف الذين قرروا الذهاب إلى إسبانيا ، معبرين عن القحط والجدب الذي أصاب بلادهم ، حتى لم يعد ينبت فيها إلا نبات الشوك بفعل هجرة الأيدي العاملة إلى الجزائر بعد حرب الريف ، وإهمال الأراضي الفلاحية وقلة البذور وإثقال الفلاحين بالضرائب التي لا تحتمل :

نَشِّينْ نُورا أَنَزْوَا وَدْنَجِّي بوثَزْواثْ
للاّ ثَمُّورْثْ أنَّغْ أزُّونْ ذَايَمْ ثَزَوّارْثْ

وظهور النبات الشوكي بشكل ملفت للنظر كناية على أن الأرض صارت مهملة ولم يعد هناك من يحرثها ويهتم بها ، أو لأن الجفاف قد عمها لعدة سنوات حتى غدت هذه النباتات الشوكية في شكل أشجار تظلل الأرض الجرداء التي تشبه أرض الصحراء .

2 ) _ دوافع انخراط أبناء الريف في الجندية والمشاركة في الحرب

إنه لمن باب النفاق والتزلف والتضليل أن يقال بأن أبناء الريف شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية بغية محاربة النظام الجمهوري الشيوعي أو لأن المشاركة في هذه الحرب فيها مصلحة للوطن والمواطنين ، أو لأن الريفيين ذهبوا لمحاربة فرنسا عن طريق تأييدها للجمهوريين ، أو مساعدة النظام الفرنكوي الديكتاتوري كونه يعطف على المسلمين ويتعاطف مع الإسلام ، أو أن فرانكو أرسل وفد الحجاج بنية محبته للإسلام والمسلمين ، أو أن فرانكو كان يحب المسلمين من صميم قلبه ، كما فاه بذلك لوفد الحجاج العائدين من الديار المقدسة .

إنه لمن السذاجة أو من الحمق أن نصدق بأن فرانكو كان سيهدي للريفيين أحسن الورود حينما ستزهر شجرة السلام . ألم يكن هذا العسكري هو الذي قتّل وجوَّع الريفيين لفترة ثلاثة عقود من الزمن فضلا عما فعل في مواطنيه الإسبان!!.

وإذا كنا نرغب في معرفة حقيقة انخراط المغاربة في الجندية إلى جانب فرانكو ودوافعها علينا أن نعود إلى هذا الشعر الذي ما يزال يردده الذين عايشوا هذه الحرب من نساء وشيوخ . من ذلك هذا البيت الذي قيل على لسان شاب قرر أن ينخرط في صفوف جيش فرانكو ، مستأذنا أمه أن تسمح له بذلك ليحصل على رغيفين صغيرين : أحدهما يسد به رمقه والآخر سيرسله إلى أمه من إسبانيا :

أجَّيي أَيَمّــا أَجَّــيي أذَبّـولْسَغْ
إشْتْ بُويُوتْ أتَتَّاغْ إِشْتْ أنْتِدَسْقَاذَغْ

إن حديث الشاب الذي يستأذن أمه للانخراط في الجندية من أجل الرغيفين الصغيرين هو تعبير عن المجاعة والقحط اللذين عرفهما الريف زمن الحرب الأهلية . وبعبارة أخرى لم يقدم على الانخراط في الجندية لمحاربة الشيوعية ولا دفاعا عن الإسلام ولا محاربة لفرنسا بقدر ما انخرط من أجل سد رمقه وإنقاذ أمه وأهله من الجوع القاتل . وحسبنا هذا البيت الذي يعبر بدون رمزية ولا استعارة عن ذلك :

أثَمْغَاثْ أُوبُلِيسْ ثَرْزَا فُوذْ ذِي ثَاسَا
ثَقَّازْ إِيَرْني ذي الْعَوْضْ مْبَطاطَا

وفي السياق نفسه تتوجه المرأة بلوم إلى الذي يملك الشعير ويبخل أن يعيرها شيئامنه أو يتصدق به عليها لتقوم بخلطه مع ثمار الدغفول ( إيَرْني )الذي يسبب الآلام في الحنجرة حينما يعالج بوحده في صناعة الخبز :

والله مَذاشْ سَمْخَـغْ أيَابَابْ إِمَنْـدي
ثْميجَّايْنُو ثْحَرْشْ إسْحَرْشيتْ أُويَرْنِِ

إنها لحقيقة ما بعدها حقيقة ، فالكل يشهد بأن نساء الجنود وغير الجنود كن يقمن بالبحث في أحشاء الأرض عن حبات الدغفول ( إيَرْني ) لسد رمق أبنائهن ، رغم أن هذا النبات جد سام وقاتل ، وخاصة إذا لم يطبخ جيدا على درجات عالية من الحرارة . وهو ما أكده الكثير من النساء والرجال الذين ما يزالون على قيد الحياة في الريف ، كما أكدوا أن ثمار هذا النبات خلف عدة ضحايا من الصغار والكبار على حد سواء ، نتيجة عدم معرفة طبخه وقتل سمومه قبل تقديمه لسد الرمق من الجوع . وما تزال كثير من الأمهات يؤرخن لميلاد أبنائهن بعام الدغفول ( عام أُيِرْنِ ) . فلأي غرض تقوم زوجة الجندي بحفر الخندق للبحث عن ثمار هذا النبات السام القاتل لو لم يكن الجوع أكثر حصادا للنفوس من الحرب نفسه ! . فها هي زوجة الجندي تترقب قدوم زوجها عسى أن يحمل معه شيئا من القوت لأبنائهما . وعندما يقدم إليها وإليهم تغمره الفرحة إلى حد أنه جاء إليهم يثب ويقفز بالفرحة بما حمل لهم . فتتساءل الزوجة لمَ هذه الفرحة لتكتشف أنه يحمل كيلوجراما من الذرة الذي نخرته الدودة ولم تترك منه إلا القشرة الخارجية :

ءِكَعَّدْ أُُوبيلِـسْ ءِكَعَّـدْ إينَـطُّ
يِيوِدْ كيلو نَدْرَ يَشِّثْ أُوفَرَتُّـو

وبقدر ما أصابت الخيبة بعض النساء لما حمل إليهن أزواجهن الذين لم يتفطنوا إلى ما يحملون من الزاد لأبنائهم ، بقدر ما أصابت الخيبة نفسها بعض الجنود الذين تفطنوا منذ البداية إلى سوء الزاد الذي يحملونه . فهذا جندي آخر تنبه منذ البداية أنه يحمل كيلوجراما من الذرة الرديء وكيلوجراما آخر من النخالة . لكن مع ذلك لم يكن له من بديل لذلك إلا أن يشتد حزنه وغيظه :

ءِكَعَّـدْ أُوبـُولِيسْ ءِكَعَّـدْ إِخَيَّـقْ
يِوِيدْ كيلو نَدْرَ ذْكيلو نْ صارْباوْ إنَقْ

فأي دفاع عن الإسلام أو أي خير سيكون للوطن الريفي من خلال مشاركة جنود ريفيين في الحرب الأهلية الإسبانية ، وهم لا يملكون قطميرا من القوت لأبنائهم ! . إنها مشاركة في الموت بدل أن يموتوا واقفين بالجوع الذي لا يرحم .

3 ) _ وصف لتراجيديا الحرب الأهلية

واكب الشعر الأمازيغي لتراجيديا الحرب الأهلية منذ البداية إلى نهايتها وصفا وتحليلا ومآلا . فمنذ اندلاع الحرب حصدت الآلاف من المغاربة ، وحتى من نجا منهم لم تنج أعضاؤه ليصبح مقعدا أو معطوبا من الأرجل أو الأيدي . فهذا جندي يرسل رسالة إلى أمه مستفسرا عن حالها ، وفي نفس الوقت يخبرها أنه على قيد الحياة بعد أن فقد رجله ويده :

أرُوحْ سِوْذَاسْ أسْـرامْ إِيَمَّا ما ثَــدَّارْ
إينَاسْ يَكْسَاسْ أُفُوسْ إِنَاسْ يَكْساسْ أُضَارْ

إنها نوع من الطمأنة للأم على أن ابنها ما يزال على قيد الحياة ، رغم فقدانه يده ورجله . وهو ما يفسر أن النجاة في الحرب من الموت أمر نادر . وحتى إذا قدر للمشارك في هذه الحرب أن يسلم من الموت فإنه قلما سلمت أعضاؤه الأساسية من الأيدي والأرجل .

وقد يتوجه هذا الشعر إلى زوجة الجندي التي لم تضع في حسابها عواقب المشاركة في الحرب الضروس التي شارك فيها زوجها ، فيخاطبها كمن يوبخها عن عدم حزنها على زوجها المشارك في الحرب ، ليخبرها بموته وبقي عرضة للتعفن في ساحة المعركة دون أن يجد من يقوم بدفن شلوه في التراب :

أثَمْغاثْ أُبُوليسْ شْفامْ زِرَمْسَمَّنْ
أقَّامْ أَرْيَازَنَّمْ ذِي سَبَّانْيا يَسْمَـم

ونفس الخطاب يوجه إلى التي ألهيت عن زوجها بأكل العنب الحلو ناسية أن شلو زوجها بقي سبعة أيام دون أن يجد من يواريه في التراب :

أَثَمْغاثْ أوبولِبسْ ما يْتَعْجِبَمْ أُضيرْ
أَقَّامْ أَرْيَازَنَّمْ سَبْعَ يَّامْ ويَنْــديرْ

ويتحدث الشاعر على لسان الجندي الموجود في أرض المعركة ، واصفا مأساته وضراوة الحرب التي لا تتوقف حتى في أيام الأعياد ، وبخاصة في عيد الأضحى الذي ألف فيه الفرح وسط عائلته :

أيَا لَــلاّ يَمَّا ما نَا رَهْنـا نَهْنَــا
أَقَا رْعِذْ أَمَقْرَانْ نَسَّعْذوثْ ذي فيلاَ

فيأتي خطاب الأرامل كأنه يجيب عن البيتين ليخبر الجنود الذين قضوا عيد الأضحى في ساحة المعركة ليقول : إننا ضحينا نحن أيضا يوم عيد الأضحى ب”سمك البُوري ” حين مات أزواجنا على أيدي النصارى بإسبانيا ” :

أياالعيذْ أمَقْـرانْ نْعَيَّذْ صُوبُري
أَرْمِ مُّثَنْ رْعَسْكَرْ يَنْغيثَنْ أُورومِي

ويرسل جندي آخر رسالة مفتوحة إلى كافة أهالي الجنود ليخبرهم بأن الذين نجوا من القتل فقدوا أرجلهم وأيديهم في الحرب الضروس .

أَحَـادْ يَكْساسْ أُفُوسْ أَحادْ يَكْسَسْ أُضارْ
أَسَباَّنْيا ثِيــرَفْثْ ذانْغِجِّـينْ ذِمَعْضَارْ

وكأني به يقدم صورة حقيقية من أرض المعركة ، على خلاف ما كان يقدمه أذناب الديكتاتور فرانكو من القواد والشيوخ الذين كانوا يقومون بإغراء أبناء الريف للانخراط في الجندية ويخبرونهم بأنهم سيقومون بجولة في أرض ما وراء البحر لا تختلف عن فسحة . وما يزال بعض الأحياء يتذكرون أن أحد رؤوس الاستعمار الإسباني كان يخطب في الأسواق الأسبوعية بإقليم الناظور ويقول : ” إن إسبانيا تمد كل المجندين بما قدره 100 بسيطة بمجرد ما يحملون البندقية ويحركون زنادها ” . أي زناد هذا الذي كان يتحدث عنه هذا المشجع للانخراط في الجندية ! . إنه الموت المحقق مقابل 100 بسيطة ، أو على الأقل أن يفقد أعز أعضاء جسمه ويبقى معوقا طول حياته إذا كتبت له النجاة ! .

ومما يؤكد وثائقية هذا الشعر تسميته لأحداث ووقائع وأعلام أشخاص شاركوا في هذه الحرب وبقوا طول حياتهم معوقين ومعطوبين ، وبعضهم ما يزال يقعد أو يتكيء على الجدار في الصف أمام القنصلية الإسبانية بالناظور على رأس كل شهر ليتقاضى المرتب الهزيل مقابل فقدانه أعضاء من جسمه في هذه الحرب . ولنصغ إلى أمثال هذه الحقيقة المأساوية في هذا البيت الموجز وهو يصف سيارات الإسعاف التي كانت تحمل المعطوبين المغاربة بميناء مليلية الريفية المحتلة :

تُوموبينْ ثزَوَّاخْثْ ءِدِيْسينْ ءِمَعْضَارْ
ثِسيدْ الْعَبُّوضِي ذا عْمـارْ أَقيذَارْ

قد لا يهمنا من هو العبوضي أو عمرو الأعرج ، ولكن يهمنا أن هذه الأسماء حقيقية لأشخاص معروفين عاشوا طول حياتهم ضمن لائحة معطوبي الحرب الأهلية الإسبانية ، فضلا عن المفقودين والذين لقوا حتفهم في أرض المعركة ، كما أشرنا إلى ذلك من قبل .

وفي خضم هذا الوصف التراجيدي لم ينس الشعر أن ينوب عن الأرامل والأيامى واليتامى الذين أدوا ضريبة هذه الحرب . فهذه إمرأة تبكي بكاء لا يقل عن بكاء الخنساء التي فقدت أخويها وأهلها في الحرب . لكن شتان بين البكاءين ، فتلك بكت أهلها الذين استشهدوا في معركة الشرف دفاعا عن القبيلة أو عن العقيدة . أما المرأة الريفية فقد بكت أهلها لأنه غرر بهم أو سيقوا إلى حرب قذرة لا نفع ولا جدوى من المشاركة فيها ، فتقول :

غَـزُّوا ذَايِي ثَكَّا سَبَّانْيَا ذِي مَلاَغَا
رَمِي ذَايِي ثِيوي ثَرْوَ عَـمِّ مَرَّا

هذه هي الحرب الأهلية التي أخذت كل أبناء الريف ليلقوا حتفهم أو يعود بعضهم مقعدين في أحسن الأحوال .

وتبكي الأخرى حظها حين أتت نيران الحرب على زوجها أو عشيقها الذي كان فارس أحلامها ، فتسود الدنيا في وجهها وتيأس من الحياة بعد عبوره مياه البحر إلى الضفة المجهولة:

أَيَا لَلاّ يَمّا مَـيَمِّي السَّعْذِينُـو
“عيسـى” أقَّيُيُورْ مَيَمِّي ثُذَاثِينُو

وليس عيسى إلا رمزا للزوج أو الحبيب العاشق لأنه قلما نجد المرأة الريفية تصرح بهوية المتحدث عنه في الشعر الأمازيعي ، وبخاصة إذا كان هذا الشعر من إنشاء المرأة . لكن الذي يهمنا ، هنا ، أن عيسى المتحدث عنه هو رفيق الحياة في الحاضر أو في المستقبل .

ومن عناصر هذه التراجيديا شراسة الحرب وضراوتها ، لأن منشئي هذه الأشعار كانوا على علم ووعي بتعدد القوات التي كانت تساند كلا الطرفين المتحاربين ( الجمهوريون ومؤيدو الديكتاتورية الفرنكوية ) . من ذلك ما وصفت به القذائف المدفعية التي كانت تتساقط على جنود الأطراف المتحاربة :

رْبُورْقي نَـزَّاجْ ذي سَبَّانْيَــا يْهَـدَّمْ
مينْ ييوي ذَا رُومي مِينْ يِيوي ذَا مَسْرَمْ

وبقدر ما كان أصحاب هذا الشعر على علم بالأسلحة الفتاكة التي تستخدم في الحرب بقدر ما كانوا يعلمون أيضا أن النازية الهتليرية كانت وراء نشوب هذه الحرب ومساعدته للفرنكوية . فها هو الشعر يوجه اللوم والانتقاد للألمان لأنهم هم الذين كانوا وراء مساعدة الحركة الفرنكوية ، تلك التي أدت إلى تجويع أبناء الريف ودفعهم إلى أرض المعركة مكرهين نتيجة التجويع تارة ، والإغراء أو التهديد تارة أخرى :

ألِيمانْ ألِيمانْ أَمِّيسْ نَتْفُونَاسينْ
أَشَّكْ إِذَنَغْ يَجِّينْ نَسُّوذُمْ ثِزَيَّثِينْ

ويؤكد هذا وجود بعض البضائع الألمانية في أسواق الريف زمن الحرب ، منها مادة السكر الأحمر التي كانت ألمانيا تمون به الأسواق بشمال المغرب ، وما يزال بعض الأحياء الذين عاشوا فترة هذه الحرب يتذكرون السكر الأحمر الذي يشبه مادة الآجر في لونه . فعبر الشعر عن ذلك بنوع من السخرية والتعاطف في نفس الوقت مع ضحايا الجمهورين ، إذ وصف هذا السكر بأنه عصير دمائهم :

السُّكَّرْ أَزَوّاغْ إِذَمَّــنْ نَرُّخُو
ءِ عَانيثِدْ ءُولِمانْ ءِمُورُو أَثِيسُو

وبأسلوب لا يخلو من السخرية اللاذعة من الألمان يخاطب الشعر الأمازيغي فيالق الجنود الألمان ليحثهم على التقدم إلى ساحة المعركة ، وإلا سيشارك الشاعر بنفسه في القتال لأن الجمهوريين ( الحمر ) يريدون أن يحكموا بلادهم بأنفسهم دونما حاجة إلى الدخلاء :

سُكَادْ أَيَليمانْ نيـغْ أَدْسوكَــغْ أَنِّنيثْ
أَلرُّوخُو بوُشَنْكُوكْ يَخْسْ أَذْيَحْكمْ أَنِّيثْ

وحين يتفطن الشاعر إلى مأساة كثرة الموتى من أبناء الريف يتوجه إلى الأمهات والأزواج ليحثهن على التأسي بالصبر والتحلي بالجلد لأنه لا مفر من القدر المحتوم على هؤلاء الضحايا الذين قتلوا بدون هدف ولا غاية :

أَبْيَسْ أَبْيَسْ نَّمْ أَعْذَرَشْ أَزَيَّارْ
أَبُوليسْ مَّذْريذْ والله عَمْرُ يَظْهَرْ

وقد يحاول التخفيف أحيانا على الفتيات اللائي ينتظرن عودة شباب القرية ، وبخاصة من ذهب خطيبها أو عشيقها إلى الحرب ليعود غانما لدفع المهر والتزوج بفتاة الأحلام ، فيخاطبهن :

أثِبْريغِنْ أَنَّغْ وقَطْعَنْتْ بُو رَيَاسْ
ثُسَدْ إِجَنْتَبْراتْ زِيسَبَّانْيَا لا بَاسْ

لكن سرعان ما تكشف الحقيقة المرة عن طريق ما أخبر به المعطوبون الذي عادوا إلى القبيلة ، ليقولوا إن الجميع قد هلك ولم يعد على قيد الحياة أي جندي من الفرق العسكرية الأهلية ، فالكل قد مات ولم يرجع إلا المعطوبون الذين صاروا عالة على ذويهم :

أَغَـرَّبو إِقَلَّعْ فَارْياطَا تَـرَسَّا
أَيا للاَّ يَمَّا نُومْرو فُورْسَا يَقْضَى

4 ) _ موقف المرأة من المجند لدى إسبانيا خلال الحرب الأهلية

نظرا إلى المصير المحتمل بل الأكيد الذي سيلقاه المجند في هذه الحرب انطلاق من تجربة الأرامل بدأ الإعراض عن الزواج بالمجندين حتى ولو كان ضابطا أو حاكما لأنه سيموت لا محالة مادام يرتدي لباس الجندية . فلنستمع إلى المقطع الصريح على لسان الفتاة الريفية :

وارْتيوْيَغْ أَبُوليسْ واخَّ غَيْرِ ذَنْوَرْ
وخَّ إِحَكَّمْ زِمْرِيتْشْ أَرَ النَّاظُـورْ

بقدر ما كانت هذه النفثة بريئة بقدر ما كانت واعية بمصير الجندي ، وهو ما جعل الفتيات يرفضن الزواج بمن ينتظره الموت المحقق على أرض المعركة . وإذا كتب له أن ينجو من الموت فإنه لن ينجو من ملاحقة الفقر . لأنهن على علم بالراتب الهزيل الذي لا يسد رمق الجندي وحرى أن يعول عائلته ، فتصفه الفتاة بأن أجرته لا تتعدى ثمن رغيف صغير يقتسمه على مدى وجبتيه في اليوم :

وارْتِوْيَغْ أَبُوليسْ وخَّا ذايْ غَيَوْزَنْ
أثْبُيُوتْ أَنْوَغْرُومْ إِفَرْقيتْ خْوَزْيَنْ

قد يقول قائل من أين للفتاة أن تعلم كل هذا ؟ ، ويكون الجواب في التساؤل التالي : أوليست هذه الفتاة من أسرة لها مجند في الجيش ، بل ربما كانت ابنة جندي التي رأت أمها قد انتظرت عودته مدة طويلة وفي النهاية كان انتظارها يحكي قصة أسطورة ليالي ” بَنِلُوت ” تلك الزوجة المخلصة لبحار غاب عن منزله سنوات وسنوات دون أن يعود . وربما سمعت أمها تردد أشعارا حينما تذهب إلى الغابة لتجمع الحطب أو حينما تجلس عند طاحونتها الصغيرة بمنزلها وهي تديرها بيدها الهزيلة والدموع تنهمر مع هديرها ساعة السحر ، وهي تقول :

أَعَامَيَنْ إيكِّيغْ خَشَّــطْ نْرَبْحــارْ
أَتْرَجيغْ أَبُوليسْ ذي لاوْسِيمَا أَدِضَارْ

إنها مأساة كافة نساء المجندين بالريف ، رغم أن المقطع يتحدث عن ألم المرأة في صورة الإفراد .
وما أصدق هذا المقطع الذي يصف حقيقة نتائج هذه الحرب التي أهلكت كافة شباب الريف ، ولم يبق إلا الشيوخ العجزة يبيعون التين الشوكي على قارعة الطريق !!:

أَسَبَّانْيَا ثِيرَفْثْ وكَـِصَبْحَنْ ثيوَاشْثْ
ثَجّ ءيِوَسُّورَا أَزْنُـزَانْ ثَهَنْدَشْثْ

تلك هي الحرب الأهلية الإسبانية كما وصفها الشعر الأمازيعي بالريف .

الخلاصة

1 ) _ أن الأرقام التي عبرت عنها السجلات الرسمية من الوفيات والمعطوبين والمفقودين والجرحى لم تستطع أن تقدم مأساة الريف كما شخصها الشعر المحلي ، رغم أنه لم يفصل بالأرقام كما هو الشأن في هذه السجلات الاستعمارية .

2) _ من خلال النفثات الشعرية التي تتبعناها يتضح بجلاء سقوط أسطورة الذين قالوا ذهب أبناء الريف إلى إسبانيا لمحاربة الشيوعية والشيوعيين ، أو أولئك الذين قالوا إن الانضمام إلى جانب حركة فرانكو المتمردة كان لصالح الوطن والدين .

3) _ على الرغم من الأرقام التي قدمتها السجلات الاستعمارية الرسمية فإن الحقيقة أكثر من ذلك بكثير .

4) _ لعلنا نجد في هذا الشعر أصدق تعبير عن مخلفات هذه الحرب القذرة التي أتت على الأخضر واليابس .

5) _ يتضح مما قاله بعض الكتاب ورجال الإعلام ومؤيدي الحركة الفرنكوية من رجال الدين ومن السياسيين الذين عاشوا زمن الحرب وتملقوا للحركة للديكتاتور وأذنابه أن العودة إلى تراثنا الشعب خير سجل لتصحيح وقائع تاريخنا إذا كنا غيورين على تصحيحه من الشوائب .

6) _ ما قدم الشعر من حقائق عن هذه الحرب يصدق عن الأحداث الأخرى التي عرفها الريف . ولن نستطيع العثور على الحقيقة الغائبة إلا بالعودة إلى تراثنا الأصيل المعبر عن الذاكرة الشعبية التي تختزن كثيرا من الحقائق المجهولة .

بحث من إنجاز الدكتور الريفي مصطفى الغديري (بتصرف)

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
%d مدونون معجبون بهذه: